ماذا يعني حمل ساعة محمّلة بالتقنيّات الرقميّة، تشبه لوحاً ذكيّاً محمولاً على المعصم؟ ماذا عن النظر إلى شاشة محمّلة بأيقونات البرامج والتطبيقات، خصوصاً الاتصال بالانترنت والشبكات الاجتماعية؟ إذا صح القول أن إنسان الحداثة اندمج مع ساعة اليد إلى درجة تحوّلها مكوّناً بديهيّاً للجسد، بل امتداداً له وجسره مع مفهوم الوقت، فكيف يمكن رسم علاقته مع ساعة التقنيّة الرقميّة، ونموذجها ساعة «آبل» التي يتوقع أن تندفع موجتها في مطلع العام المقبل، بعد أن عرضت في خريف العام الحالي؟ الحرب وساعة المعصم لنعد إلى الخلف قليلاً، ليس أكثر من مئة... سنة! في 2014، احتفل العالم بمئوية الحرب العالميّة الأولى. قلة تذكّرت أن الحرب كانت بداية «دخول» ساعة اليد إلى جسد الإنسان. وبسبب ضرورات الحرب، خصوصاً حرب الخنادق، وزّعت ساعة اليد على جنود الجيوش المتقاتلة. ربما يصح أيضاً أن التاريخ الفعلي للمجتمعات الحديثة، المتكاملة مع الآلات التي أطلقتها الثورة (بل الثورات) الصناعية، ترسّخ فعليّاً بعد تلك الحرب. مع المصنع والطرق الحديثة والمواصلات العامة والخاصة ومؤسسات الدولة، توسّع الرسوخ في مفهوم الوقت المقاس حسابيّاً بالساعة، في الحياة اليوميّة. عملت الساعة على ربط الإنسان بالوقت، في شكل يتواصل على مدار الساعة، بل لا يقبل التوقّف. بات بديهيّاً العمل بالتوقيت، بالساعة والدقيقة، بل إن أوصاف الحياة اليوميّة باتت تربط بالساعة. لشدة ما صار الاتصال المستمر مع الوقت بديهياً، صار رسمه عبر الساعة فائق البداهة أيضاً، بل أن نقاش ضرورة الساعة للإنسان لم يعد قائماً. قبل عقود قليلة، كانت تعقد المقارنات بين القرية والمدينة، فيكون الوقت المضبوط الإيقاع بالساعة في المدينة، هو رأس القائمة في الفارق مع العيش القروي والريفي. بالقياس، ربما تكون المدينة في الغد هي مكان تحوط أجساد ساكنيها أدوات تقنيّة تُرْتَدى فتحوط المعصم والإصبع والرأس (بل ربما في نسيج الأثواب كافة)، لكنها تنقلب قرية عندما يغيب عن الأفراد رداء التقنيّة الذي لا يكف عن وصل الجسد بشبكات الفضاء الافتراضي المعولم واتصالاته المتنوّعة! لنتذكر تلك الشكوى المتصاعدة عن كثرة تطلع العيون إلى الشاشات وانحناء الرؤوس باتجاهها على مدار الساعة، خصوصاً عند الصغار والشباب؟ باتت شائعة الشكوى من أن اللقاءات المباشرة لم تعد مجدية، لأن أفرادها يتطلعون إلى الشاشات أكثر مما يصغون (الاتصال البصري المباشر ضرورة للتواصل المجدي)، إلى من يجاورهم جسديّاً ويشاركهم المكان نفسه. هناك شكوى من شدة التشتت وضعف التركيز في الأحاديث (ويترافق معهما مباشرة الميل إلى الجمل السريعة والكليشيهات على أنواعها)، مع توزّع الانتباه بين الشاشة ومن عليها من جهة، ومن يتشاركون سوية العيش وأوقاته من الناحية الأخرى. لم يتردّد كثيرون في تشبيه الأمر بأنه معاناة واسعة لأعراض مرض التوحد «أوتيزم» Autism! ربما ليس مبالغة تماماً، بل إن كتاب البروفسور الأميركي نورمان دويدج «الدماغ وكيف يطوّر بنيته وأداءه» (2009)، جمع كمية كبيرة من الإحصاءات عن تلك الظاهرة! ينطبق ذلك مثلاً على السيارة التي ساهمت في تغيّر أوجه في الحضارة، إضافة إلى اعتصار هواء الأرض ومناخها، لكنها تقدمت كمركبة مريحة للمواصلات، وكانت في البداية مجرد بديل إيجابي عن عربات الخيل التي لم تعد تلبي حاجات البشر. راهناً، تقف الأدوات القابلة للارتداء بصراحة كبيرة بين الفرد وجسده، وامتداداً هويته أيضاً. إنها تفعل أشياء بسيطة مثل قياس أداء القلب وكفاءة اللياقة البدنية، إضافة إلى تحديد الأمكنة التي يمر بها الإنسان، بل تحسب خطواته ونقلاته. مثلاً، تذهب نظارة «غوغل» إلى أبعد من ذلك، لأنها تستطيع التحكّم في ما يراه الإنسان، كأن تحذف أشياء لا يريد أن يراها. (مثلاً، حذف الخراب العشوائي للمدينة أو المتسولين في شوارعها). إذا سلّمنا بصعوبة فصل البصر عن الإدراك والوعي، كيف يمكن وصف مدى قوة نظارة «غوغل» ومدى التغيير الذي تحدثه؟