×
محافظة المنطقة الشرقية

عوض خميس : مايثار عن رفضي التجديد للنصر غير صحيح

صورة الخبر

وقع المحظور، حدث ما كان متوقعًا، ومع ذلك لم يؤخذ على محمل الجد. تبين أن الساسة العرب ليسوا وحدهم من يفكرون بمنطق القرن العشرين، في عصر مختلف تمامًا بأدواته، وإمكانات مجرميه، وعتادهم التنفيذي. كان ثمة «شارلي إيبدو» قرعت جرس الإنذار بقوة، بوقاحتها ووجهها المكشوف. ومنذ أيام فقط أحبط الفرنسيون محاولة تفجير في قاعدة عسكرية، ومع ذلك تمكن الإرهابيون من تنفيذ أكثر العمليات الإجرامية دموية، في تاريخ فرنسا الحديث، وبأسلوب شديد التركيب والتعقيد. باريس تحت هول الصدمة، «11 سبتمبر (أيلول)» جديد بسيناريو مغاير. يحاول الفرنسيون العودة إلى جريمة بهذا الحجم، في بلادهم، حتى أثناء الحرب الفرنسية - الجزائرية، فلا يعثرون عليها. لم يتعلم أحد الدرس، إذن، لا يزال هناك من يظن أن ثمة مزاحًا، آمنًا، مع الإرهاب أو جدوى من مهادنة بعض أجنحته لقطف ثمار أرباح سياسية صغيرة. هناك من يظن أن المسافات الجغرافية لا يزال لها قيمة تذكر، وأن سوريا بعيدة عن أوروبا، أو أن أميركا تختبئ وراء الأطلسي وتحتمي بمياهه. يعتقد أوباما أن أميركا في مأمن نسبي. لعله مخطئ، أسهل الارتكابات هي القتل وأصعب المهمات هي منع حاقد من تفجير خزان بغضائه في وجه الأبرياء. رغم هول المجزرة، نجت فرنسا من كارثة كان بمقدورها أن تكون أكبر وأفجع، بما لا يقاس. ماذا لو تمكن الانتحاريون الثلاثة من دخول «استاد فرنسا» الذي كان على مدرجاته 80 ألف متفرج، وتمكنوا من تفجير أنفسهم في الداخل؟ ماذا لو نجح إرهابيو «مسرح باتاكلان» باحتجاز عدد أكبر من الرهائن من بين 1500 كانوا يحضرون حفل الروك الأميركي، وظنوا للوهلة الأولى، أن إطلاق النار، مجرد جزء من العرض الموسيقي، قبل أن يلوذوا بالفرار؟ ثمة دائمًا إجراءات أمنية يمكن الالتفاف عليها. الأحزمة الناسفة لم تكن في حسبان الشرطة الفرنسية، ومع ذلك ظهرت بالجملة، ومعها كلاشنيكوفات، وعدة حربية. أي حرية تنقل بها هؤلاء؟ أي خطة جهنمية رسموا؟ وكم استغرقت من الوقت، لتنفيذها بهذه الدقة، والتناغم والتزامن، عشية اجتماع فيينا، وبعد انفجار الطائرة الروسية في شرم الشيخ وانتحاريي بيروت؟ هل من خيط يربط الأحداث الإرهابية التي تحصد ضحاياها يمينًا وشمالاً؟ وهل المحرك واحد، أم جهات عدة؟ وهل أصبح تنظيم داعش، بـ«خلاياه المترابطة عنقوديًا»، وبـ«ذئابه المنفردة» موضع استغلال وتوظيف من جهات متعددة، وربما متصارعة، تحارب بعضها بعضًا بمجانينه وانتحارييه؟ الأسئلة غزيرة والإجابات شحيحة، رغم استسهال البعض إطلاق الاتهامات، وتعريف الفاعل. جريمة مساء الجمعة 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 في باريس بحرفيتها وتشعبها، وقدرتها على اختراق كل الخطط الأمنية والاستخباراتية، هي نتاج خطط محاكة بعناية حاذقة. وهي دليل على أن فرنسا، وربما أوروبا، أصبحت أرضًا لخلايا نائمة، تنتظر الفرص المناسبة لتنقضّ على فرائسها. كل ذلك يبدو مفزعًا، لكنه منطقي. ما معنى أن تطلب «داعش» ممن لا يستطيع التوجه إلى سوريا، تنفيذ عمليات في فرنسا؟ لمن توجه الأوامر؟ وماذا وراء ما يقوله محللون: إن كل ما يحدث قد يكون مجرد تمهيد، لما هو أكبر وأعظم، تبعًا لمعلومات متوافرة؟ أماكن التفجير انتقيت بعناية من يضمر كرهًا معتقًا للفرح، ويعرف كيف يجعل الإعلام حليفًا. استاد رياضي، غالبًا ما يكون مؤمّنًا ومحميًا، خاصة مع وجود رئيس الجمهورية الفرنسية وشخصيات سياسية، لكنه في الوقت نفسه موضع كاميرات ووسائل إعلام، بسبب اللعبة التي تجمع منتخبي فرنسا وألمانيا. مسرح ترفيهي، يضم حفلة موسيقية يجتمع لها محبو اللهو، ومطاعم ومقاهٍ، لمن يريد الأنس، عشية عطلة نهاية الأسبوع. كل العناصر التي تستحق في نظر تنظيم داعش الثأر منها، وركوب موجتها الإعلامية، متوفرة في المواقع المختارة. استطاعت فرنسا في الثمانينات، أن توقف الموجات الإرهابية التي هددتها، وتمكن العالم من فرملة هستيريا تنظيم القاعدة نهاية القرن الماضي. مع الأسلحة الجديدة التي أكثرها فتكًا وخطرًا، هو الإنترنت، أصبح بمقدور الغاضبين أن يلتقوا في مكان واحد دون أن يهتزوا عن مقاعدهم، وأن يحضروا قنابلهم في مطابخهم، وأن يركبوا الأحزمة الناسفة بجهد شخصي في غرف نومهم. صارت ملاعبة الإرهابيين والتحايل عليهم، كما يفعل «الماتادور» مع ثيرانه في حلبة المصارعة أمرًا شديد الخطورة والدموية. لم يعد أمام المتضررين من خيارات كثيرة. نفد الوقت أو يكاد، لاتخاذ إجراءات حازمة. التنسيق الاستخباراتي الذي تدعو له فرنسا، ليس اختراعًا جديدًا، فهو أمر جرى تطبيقه منذ مدة طويلة بين الدول المعنية. ما يحتاجه العالم اليوم، هو اتفاق واضح ومخلص، على مكافحة الإرهاب، دون خلاف على من هو الشرير ومن هو الخيّر بين الإرهابيين. والمكافحة لا يبدو أنها ناجعة بالقصف من الطائرات. المطلوب، تخفيف الاحتقان، تنفيس بالونات البغضاء التي تم نفخها منذ دخول أميركا إلى العراق، إغلاق صنابير الأموال التي تسمح بتدفق الأسلحة إلى المنطقة إلى أي جهة كانت. فلو أن مئات المليارات التي أنفقت على القتل في المنطقة العربية صرفت على التعليم وبناء المصانع وتطوير التكنولوجيا، لكانت الأنظمة الجائرة غرقت من تلقاء نفسها بوحولها العفنة. من يحكمون العالم اليوم، هم من مخلفات عصر ما قبل «البريسترويكا» الذي أكل الدهر عليه وشرب. قد يحتاج ساسة الدول الكبرى عقودًا مقبلة، ليدركوا أن المعطيات تغيرت، وعلى أدمغتهم أن تعمل بما يتناسب ومنطق زمنهم. الذكاء الاصطناعي صارت مفاعيله ونتائجه أسرع وأدهى من أن يدرك ذيولها الذكاء البشري، وعلى الإنسان أن يتبع. «الحروب الباردة» كانت تحرق الصغار وحدهم دون العمالقة أصحاب الهامات الكبرى. مع ردم المسافات الجغرافية إلكترونيًا، أصبحت ألسنة اللهب، قادرة على الوصول إلى الأخضر وما يبس. للأسف، جريمة جمعة الجحيم في فرنسا سيكون لها ما بعدها.