يحب غواة تبسيط التاريخ والبشر والسياسة والأمم الارتكاز لسببٍ واحدٍ أو شخصٍ أو حادثٍ ليعزو إليه تقلبات التاريخ والتغيرات الكبرى في مراكز القوى حول العالم، فمستقلٌ ومستكثرٌ، ففي الحرب العظمى، أو الحرب الأوروبية، أو الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) كما تعرف اليوم، سعى البعض لربطها بشخصٍ وحدثٍ وهو قيام شابٍ صربي باغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند مع زوجته أثناء زيارته لسراييفو. وينسى هؤلاء في الغالب أن تغيرات التاريخ الكبرى كانت تتم بعد إرهاصات كبرى، وتغيرات ضخمة، وتبدلات في المصالح، وتقلبات في التوجهات والأولويات، مما يدفع بمجموعة لخلق عالمٍ جديدٍ يفتش عن ثغرةٍ ليعبّر عن نفسه بكل قوة، وهكذا كان، وهو ما جرى قريبًا منه في الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) ثم بعد ذلك وعلى مدى أكثر من أربعة عقودٍ ونيفٍ قامت وتوسعت الحرب العالمية الباردة التي شملت كل القارات الخمس في حروب ومعارك متعددةٍ ومتنوعةٍ. واليوم، وكما سبق لكاتب هذه السطور الإشارة، فبعد أن بقيت المنطقة تعيش حربًا إقليميةً باردةً استمرت لعقودٍ فإنها تطوّرت لحربٍ عالميةٍ باردةٍ مركزها الشرق الأوسط والدول العربية، وأصبحت أي قراءة للمشهد يجب أن تستحضر حجم التغييرات الكبرى السابقة والحاضرة، ففي مستوى الدول على سبيل المثال، لم تعد الدولة الوطنية الحديثة سواء كانت ملكيةً أم جمهورية كافيةً للفهم والتحليل وصياغة الرؤى، بل أصبح لزامًا التفكير من جديدٍ في بنى جديدةٍ للدولة الوطنية الحديثة التي أصبح لها نماذج جديدة، فثمة «دول الميليشيات» وهي الدول التي سقط فيها مفهوم الدولة وأصبحت تدار وتحكم من قبل ميليشياتٍ مسلحةٍ ذات ولاءاتٍ عابرةٍ للحدود، إما باتجاه الراديكالية والإرهاب، وإما باتجاه العدو الإقليمي المتمثل في الجمهورية الإسلامية في إيران، والدولة الليبية والدولة اليمنية خير مثالٍ في هذا السياق، والدولة الصومالية من قبل. ونموذج ثانٍ هو «دول استقرار الفوضى» وهي تتقاطع مع سابقتها ولا تطابقها، بمعنى أنها دولٌ وإن لم تسيطر عليها الميليشيات فقد فقدت استقرار الدولة لصالح استقرار الفوضى، وأوضح أمثلتها هي الدولة التونسية والدولة المصرية قبل الانعتاق من الحكم الراديكالي والإرهاب، ومن قبل الدولة اللبنانية ضمن سياقٍ خاصٍ. والنموذج الثالث، يتمثل في «الدول الطائفية» وهو تجلٍ أكثر سقوطًا في وهاد التخلف لا السياسي فحسب بل والثقافي والحضاري بشكلٍ عامٍ، وهي الدول التي فقدت كيانها الوطني الحديث وتحوّلت لمكونٍ أكثر تخلفًا وضيقًا وهو «الانتماء الطائفي» لتبني عليه الدولة والحكومة والجيش والأجهزة الأمنية، وأوضح أمثلتها الدولة العراقية والدولة السورية. وبقي نموذجٌ رابعٌ، يناقض هذه الثلاثة وهو نموذج «دول الاستقرار» أو الاستمرار الطبيعي للدولة الوطنية الحديثة، وأوضح أمثلته المملكة العربية السعودية ودول الخليج والأردن والمغرب والجزائر، وباستثناء الجزائر فهذه دولٌ لم تكتف بالنجاة من التغيرات الكبرى بل كانت لها أدوارٌ في استعادة الاستقرار في بعض الدول ضمن مواقف تاريخية جديرةٍ بالاستحضار والعناية، ومن ذلك أولاً: إنقاذ مملكة البحرين من براثن الفوضى والتدخلات الخارجية، وثانيًا: استعادة الدولة المصرية لدول الاستقرار العربية بمساندة جيش مصر وشعبها، وثالثًا: إنقاذ الدولة اليمنية من ميليشيات إيران وأتباعها عبر «عاصفة الحزم» و«إعادة الأمل». إن تحوّل الحرب الإقليمية الباردة إلى حربٍ دوليةٍ باردةٍ تم ضمن مجموعةٍ من العوامل تقف على رأسها ثلاثة هي الأهم في هذا السياق: الأول، الانسحابية والانعزالية التي تبنّتها إدارة الرئيس باراك أوباما بخيار الابتعاد عن منطقة الشرق الأوسط ومشكلاتها المزمنة، والإصرار على عدم التدخل في شؤونها بعد فشلين متتاليين للإدارة، تمثل أولهما، في فتور الحماس لإيجاد حلٍ حقيقي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني/ العربي. وتجلى ثانيهما، في انهيار رؤية الإدارة في دعم الحركات الراديكالية لتكون بديلاً عن أنظمة الحكم العربية من جهةٍ وعن جماعات الإرهاب كتنظيم القاعدة من جهةٍ أخرى. وتعاملت إدارة أوباما مع الأزمة السورية بناء على هذين الفشلين. الثاني: الفراغ السياسي الكبير الذي خلقته هذه الانسحابية والانعزالية في المنطقة، وتحديدًا الأزمة السورية بحيث وجدت روسيا الاتحادية نفسها مضطرةً لملء هذا الفراغ بأقل تكلفةٍ وخصوصًا بعدما جرّب الرئيس الروسي خصمه التاريخي في ضم جزيرة القرم وفي أحداث شرق أوكرانيا وخرج منهما شبه منتصرٍ، وإنما قلت شبه لأن لمثل هذه الأحداث الكبرى تبعاتٍ لم تتجلَ بعد على المشهد الدولي. ويبقى التحدّي الكبير أمام روسيا هو كلفة هذه الحرب وقدرة الاقتصاد الروسي على تغطيتها للنهاية. الثالث: السياسات المتناقضة، وليس المقصود هنا هو صراعات المصالح الكبرى والنفوذ حول العالم بين القوى الكبرى، بل تبنّي الإدارة الأميركية وبعض الدول الغربية لخياراتٍ سياسيةٍ قائمةٍ على التخلي وإن جزئيًا عن الحلفاء والاتجاه لأحضان الأعداء في المنطقة، وأوضح مثالٍ لذلك هو الاتفاق النووي الإيراني، وهو ما خلق تناقضًا لا يقل أهمية يتمثل في الموقف من الإرهاب، وذلك على عدة مستوياتٍ منها: التغاضي شبه الكامل عن أنشطة إيران الإرهابية التي تقر بها الدول الغربية وتدخلاتها السافرة في بعض الدول العربية، وكذلك التناقض في التعامل مع الجماعات الإرهابية بين الجماعات السنية التي يجب أن تحارب والجماعات الشيعية التي يفضل السكوت عنها. وأيضًا، عدم الجدية في الحرب على الإرهاب وتحديدًا تنظيم داعش في العراق وسوريا، وأخيرًا التغاضي الكبير عن علاقات إيران الوثيقة بتنظيمات الإرهاب السنية من «القاعدة» إلى «داعش». الرئيس بوتين المستمر في تحالفه مع إيران والذي يوفر لها أحدث الأسلحة وكل أنواع الدعم، والذي سيزور إيران في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أعلن قبل يومين أن «روسيا لديها كل الوسائل المالية والفنية الضرورية لمواصلة حملتها في سوريا»، وحديثه هذا ركز بوضوحٍ على التحدي الأكبر أمام روسيا في الأزمة السورية بحسب رؤيته، ومع ذلك فهذا لا يمنع أبدًا الانتباه لتناقضات الحليفين على الأرض وأهداف كلٍ منهما وتصورات كل طرفٍ لطبيعة الحل السياسي المطلوب، ووعيه بطبيعة القوى الدولية والإقليمية المؤثرة التي يجب أن يتعامل معها. أخيرًا، فإن تصريحات أوباما وكيري وتنشيط بعض العمليات ضد «داعش» في العراق وسوريا توضح ألا جديد فعليًا في تناول إدارة أوباما للأزمة السورية وإن كان لها دلالة على حراكٍ سياسي من الحزبين ضد هذا التناول وتذمر بعض المؤسسات التقليدية الأميركية تجاه سياسة «الانكفاء».