عندما وطأت أقدام البيض الأنجلو ساكسون الشواطئ الشرقية للقارة الأميركية لحاقاً برفاقهم من الغزاة الإسبان أطلق القس البريطاني الشهير لانسلوت آندروز فتوى مدوية تقول إن: الأرض صحن من اللحم على مائدة يقطع منه الإنسان الأبيض ما يشتهي، لإباحة المجازر القادمة لشعوب القارة الأصليين من الهنود الحمر.. ولإزالة أي شكل من أشكال تأنيب الضمير وبنادق الغزاة ومدافعهم تبيد قرابة 400 أمة، وتقتل بها 18 مليون إنسان، ليطلق بعدها تشارلز داروين مقولته الشهيرة: إنني أفضل أن أكون من نسل ذاك القرد الشجاع على أن أكون من نسل إنسان همجي! بعد سنين أدرك الساسة هناك أن الغد لن يكون آمناً مادام لتلك القبائل بقية لم تنس جرائم البيض في حق آبائهم وسلب أراضيهم وما دام الحقد يتأجج والثأر ينتظر ساعة الصفر لينفجر، فعمد أولئك الساسة لخطة جديدة هي أقوى وأنجع في القضاء على الآخر مازالت متبعة حتى اليوم، ولكن بوسائل أكثر فعالية، فقد أنشأ الغزاة مدارس للهنود الحمر هدفها قتل هندية الهنود... كما قال مؤسسها وواضع مناهجها الكابتن ريتشارد هنري برات، وذلك بإجراء غسيل مخ قسري ومكثف للملايين من هذه الشعوب، من خلال مناهج تمجد المستعمر وتعلي شأن ثقافته وتؤكد ضرورة تقليده، لكي تنسى تلك الشعوب البائسة أن هناك قضية تخصها يمكن أن تطالب بها لاحقاً، وهو ما لخصه وليم جونز أحد عرابي هذه المدارس بقوله: الهدف إبادة الهندي وخلق إنسان جديد داخله! في ذات النسق ذهب الإنجليز في استعمارهم للهند، فخرج الداهية توماس مكولاي، الذي كان مهندس سياسة التعليم الإنجليزية في الشعوب المستعمرة ليقول: لا أظن أبداً أننا سنقهر هذا البلد ما لم نكسر عظام عموده الفقري التي هي: لغته، وثقافته، وتراثه الروحي... فالإنسان المكسور من الداخل والـمفرغ من هويته وثقافته وقيمه الخاصة هو إنسان قابل للطاعة، والمجتمع الذي يتشكل منه أمثال هذا الإنسان هو مجتمع قابل للغزو بجدارة، وبمثل هذه الممارسات برزت في هذه الشعوب المغلوبة ظاهرة كراهية الذات Self-Hatered، ... حيث يخجل الإنسان من أصوله وثقافته وموروثاته ومنظومته الاجتماعية والسلوكية لدرجة أن يجعل البعض يصل لدرجة اعتبار هويته كابوساً وأمراً مخجلاً يتهرب من الانتساب له، وهو ما يعنيه نعوم تشوميسكي بقوله: حتى تتمكن من السيطرة على شعب اجعله يعتقد أنه هو سبب تخلفه! قد تنجح القوة العسكرية في تحقيق انتصار مؤقت، لكن ديمومة النصر وضمان نجاحه هو بالهيمنة الثقافية على ذلك الشعب، بل أصبح في حاضر الأيام هو النوع المفضل والأكثر استعمالاً من اللاعبين الكبار لوضع بقية الشعوب في مداراتهم التي يريدونها.... فالهيمنة العسكرية تخلقاً شعباً ثائراً لا يتوقف عن المقاومة، بينما الهيمنة الثقافية لا تجعل صاحب الثقافة المهيمنة صديقاً فقط، بل تعتبر تلك الشعوب نموذجه ومخرجه الحضاري هو السبيل الوحيد للحاق بركب الحضارة! لقد تحول الإعلام الغربي والأميركي تحديداً إلى مصانع للإقناع وتجيير الرأي العام العالمي لصالح المخرج الأميركي. وتجند الآلة الإعلامية هناك آلاف المفكرين والخبراء والمؤثرين مجتمعياً من مثقفين وممثلين ورياضيين وفنانين ورجال دين لخدمة توجهات الهيمنة الثقافية ولترسيخ مفردات الحضارة الأميركية كونها مفردات وحيدة للحضارة الإنسانية الصائبة.. وهو ما دعا فوكوياما فى كتابه (نهاية التاريخ) ليقول بكل جرأة وصراحة: الكل سيأكل الهامبرجر، وسيرقص الروك، وسيقلد نمط الحياة الأميركية. وتشير الأرقام إلى أن التجارة العالمية ذات المحتوى الثقافي من أفلام وموسيقى وبرامج تلفزيونية قد ارتفع من 67 مليار دولار عام 1980 إلى 424 مليار عام 2005، وأغلبيتها الساحقة أميركية المنشأ تدخل كل بيت تقريباً في ترجمة واضحة بأن من يروي القصص هو من يحكم العالم، كما تقول قبائل الهوبي! إن الهيمنة الثقافية حالياً وذراعها الإعلانية الجبارة، التي تنفق عليه المؤسسات الأميركية أكثر من 200 مليار دولار سنوياً لا يهدف فقط لخلق قناعات ولكن لبناء معتقدات، ولا يقوم بتسويق منتج ولكن يشكل شخصية جديدة، ولا يروج علامة تجارية ولكنه يكون هوية معينة، كل ذلك تحت بهرجة مقصودة من الشعارات الملونة والعبارات المنمقة، التي تدور حول حرية الاختيار والاستقلالية الفردية التامة ونزعة: Be yourself... والمقصود فعلاً أن يتم إخراج الفرد خارج منظومته المجتمعية، تمهيداً لتكوين شخص مختلف لا ينتمي للمجتمع إلا بالاسم واللون فقط! إن تجربتنا الحضارية في الإمارات تشكل علامة فارقة في المحيط الإقليمي الذي نتواجد فيه، والنموذج التنموي الذي انتهجته القيادة الرشيدة سار بتوازن بين المخرج الحضاري المطلوب والحفاظ على الهوية الوطنية والثقافة المحلية... وإن تماسك المجتمع بكل أطيافه لهو السياج الأول والأقوى تجاه أي موجات للهيمنة الثقافية التي يسوؤها أن ترى بلداً يغرد خارج سربها بتألق واضح وبنموذج محلي تشد أوصاله هويته الوطنية، التي يفتخر بها، الفخر بالوطن والانتماء له ولثقافته هو ما يؤرق المتربصين بنا، فحتى أبو المثاليات الفيلسوف برتراند راسل دعا لحذف قيم البطولة والتضحية للأوطان من كتب التاريخ، التي يتعلمها النشء عندما كتب (حكومة العالم) لأنها أكبر عائق في التأثير على هذا الإنسان لاحقاً! ليس المقال دعوة للشك، ولكن محاولة لنشر الوعي بما يحاك، وعلى قدر عظمة الأوطان يكون الخوف والحرص عليها، والناجح دائماً مستهدف، لأن نجاحه ينسف أكذوبة أن الحضارة لا تتأتى إلا بالانسلاخ من الهوية الوطنية والتشبه التام بالآخرين، فنحن بحاجة للاهتمام بزيادة تماسك اللحمة الوطنية وبضرورة الالتفاف حول هذه القيادة، التي أوصلت البلاد لهذا التوهج في محيط يعج بالدول الفاشلة والمضطربة والمتعثرة، ويكفينا ما رأينا حولنا من مغامرات الدم والخراب، كلكم على ثغر، وما دمتم أبناء زايد فلن يؤتى الوطن من خلالكم!