«لا حرج إذا جلس جمعٌ في مجلس واحد وزوجاتهم متستّرات، أو جلس معهم بعض أقاربهم من غير المحارم، من بنات العم أو زوجات الإخوة أو بعض الجيران، للسؤال عن بعض الأشياء، أو كانت زيارة خاصة، فلا بأس في ذلك، وليس لإحداهن كشف الوجه إذا كنّ غيرَ مَحْرَم للشخص، بل تجلس وتتحدث وتسلِّم ولكن لا تكشف». هذه كانت إجابة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- عند سؤاله عن حكم جلوس الإخوة مع زوجاتهم المتستّرات في المجلس، وقد نقلها إلينا الكاتب محمد آل الشيخ في تغريدة له على موقع «تويتر». وعلى رغم أن مسألة وجوب تغطية المرأة وجهها أو جواز كشفه اختلف حولها العلماء، وأن ابن باز أخذ بالأولى، حيث المرأة لديه متّشحة بالسواد من رأسها إلى قدميها ولا تُعرف إلا من صوتها، حتى هذه لم تعجب الجمهور السعودي! فانهالوا على الكاتب تقريعاً، لترويجه - برأيهم- الاختلاط. ولو اطّلع أحدنا على التعليقات قبل أن يقرأ الفتوى لاعتقد أن ابن باز ذكر غير ما ذكر. وسؤالي: ما الفرق بين اختلاط المرأة بالرجل وهي في السوق والعمل أو أي بقعة على الأرض عن اختلاطها برجال عائلتها في مجلس البيت وزوجها معها؟ منطقياً اختلاطها في مجلس العائلة برفقة زوجها هو الأكثر أماناً والأبعد فتنة، ولكن حتى هذه لم تقنعنا. حسناً، هكذا نحن، وهذا عنادنا وتصورنا لمكانة المرأة وتغييبها عن المشهد والحياة الطبيعية، فلِمَ لا نعترف بأنها عقولنا التي لا تعرف المراجعة؟ لقد جاء الإسلام ليهذب هذه العقول، ففعل زماناً ثم عدنا إلى جهلنا وتحجرنا..! لِمَ علينا أن نصبغ تعصبّنا بلون الدين؟ إذا كان الأمر متوقفاً على تعاليم الإسلام، فها هي الفتوى جاهزة من الشيخ ابن باز، وهو من هو، ومع ذلك رفضتموها ولم تتسع صدوركم لمناقشتها وانهلتم على ناقلها بالتقريع، مع أن الأَولى بشجاعة الجهلاء أن يعترفوا بأنها عاداتهم وقناعاتهم، بلا تمسّح بعباءة الدين والتديّن في كل مرة. سكينة بنت الحسين، حفيدة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي «القدوة بين النساء»، كانت تجالس الأجلّة من قريش ويجتمع عندها الشعراء. فتغدق على أحسنهم من مالها وطيبها ترسلهما مع إحدى وصيفاتها، فكيف إن تكررت الصورة في عصرنا، وفتحت متذوقة للأدب بيتها لاستقبال الشعراء والتباري ببضاعتهم الثقافية في مجلسها؟ وحتى لو جلست من حيث لا يرونها كما كانت تفعل بنت الحسين، فهل نستقرئ ماذا سيقال في عرض هذه المرأة وشرفها؟ وكم سيستدعى بالشتم رجالها وجيرانها ومن مرّ على بابها المشبوه بظنهم؟ ستخرج المقالة بطبعتيها المحلية والدولية، وكأني بالقارئ خارج حدودنا يتعجّب من طرحها! ومِن عقولٍ هذا تطرّفُ فكرها! فهل ترانا ندعو إلى اختلاط المرأة في أماكن اللهو؟ إنما قلنا في بيتها ومع زوجها ولا يدلنا عليها غير صوتها، ومع ذلك حرّموها. ومن صريح القول أن «تويتر» كان له السبق في تعريفنا بحجم الجهل المستشري في وسطنا، وهو مخيف، لأنه جهل مغلّف بالنفاق والمزايدات، فكم من يد كتبت تعليقها واستهجانها على تغريدة فتوى ابن باز، وصاحب اليد من الرواد المعتّقين للحانات كلما سافر. بل إن هذا المزايد بعينه هو أكثر من يتشدد في موضوع الاختلاط، ويحذِّر من الشيطان والنساء في كفة واحدة، لأنه أدرى الناس بسلوكه المزدوج وأقنعته المتناقضة. حين كنا ندخل على جدتي وفي مجلسها فلان وعلان يتبادلون الأحاديث في ما بينهم، وحين كان أبي يسلِّم على أمه ويجلس -من دون استنكار- وهي تناوله قهوته فأُسرع أنا لأغتنم صحن المكسّرات لي وحدي، لم أكن أسمع بعد خروج القوم أن أبي لام والدته يوماً في شيء من تبسُّطها وتصدُّرها المجلس. وكذلك هو اجتماع عائلاتنا برجالها ونسائها، كما وصفه ابن باز، فالحرة والحر لا يفرطان، ولكن يرفعان ويشرفان، فمن غذّى فينا الفكر العقيم عن الاختلاط -العائلي تحديداً- وجعله مرادفاً للانحراف والانفلات؟ إلا أن يكون صاحب هذا الفكر في نفسه ما في نفسه..! والسؤال: لِمَ يشترك معه الآخرون في تسويق مرضه؟ هل أصبحت عدوى؟! suraya@alhayat.com