لم يكن الأول من يناير ميلاد عام جديد، ولكنه ميلاد نسر جديد، نسر ولد ليحمي سماء الاتحاد، الذي بزغ فجره قبل أيام قليلة على يد الآباء المؤسسين لدولة الإمارات يوم الثاني من ديسمبر عام 1971، لتصبح فرحة الأسرة فرحتين، إذ كان أبناء الدولة قيادة وشعباً تحتفل بميلاد قوة الاتحاد. إنه الشهيد مقدم طيار سعيد راشد حمد المزروعي، الذي ولد في الأول من يناير عام 1972 داخل منزل الأسرة، ليكون المولود السابع في العائلة بمنطقة الغيل في رأس الخيمة، وسط عائلة مكونة من 17 فرداً من الأشقاء والشقيقات، متقاربون في العمر متشابهون بالصفات التي تربوا عليها على يدي والديهم، ويعمل أغلبهم بالقوات المسلحة. عاش سعيد طفولة جميلة، وسط أشجار النخيل في مزرعة والده، والجبال الساحرة التي تشتهر بها المنطقة، كان يعشق اللعب وتكوين الصداقات منذ طفولته، في منطقة تجمعها علاقة الأخوة والقبيلة، أبوابهم مفتوحة للجميع، وقت الفرح حاضرون، وفي الشدائد متضامون، عشق التراث وكل ما ورثه من أبيه وأسرته ومنطقته التي هام صعوداً في جبالها، وجاب براريها في رحلاته مع العائلة والأصدقاء. منبع الطيبقصة الطفل سعيد لا تختلف كثيراً عن قصة غيره من الأطفال، سوى أن كل من عرفه بادله الحب، كان يحب أن يكون برفقة أشقائه في أوقات اللعب والأكل، ويفترشون الأرض لتناول ألذ الطعام الذي أعدته والدتهم، حياة بسيطة مشبعة بروح الترابط الأسري والحب والدفء بين أفراد العائلة. ترعرع الشهيد سعيد في كنف والده الذي كان يعمل في وزارة الكهرباء والماء، لينهل منه حب اللون الأخضر ومساعدة المحتاجين منذ نعومة أظفاره، والسماء الصافية كانت نقطة جذب له، وهو يصعد أعلى قمم الجبال، متمنياً أن يكون له جناحان ليستطيع الطيران في السماء.. وفي عام 1990، أعلنت كلية الشيخ خليفة بن زايد الجوية عن فتح أبوابها لاستقبال دفعة جديدة من أبناء الدولة، ليتخذ قراره بالتوقف عن التعليم في مرحلة الصف الثاني الثانوي بمدرسة أسامة بن زيد بمنطقة اذن، لتحقيق حلمه بالانضمام إلى النسور الجوية الإماراتية، ويكون أول طيار حربي بمنطقة الغيل، مع صديق عمره سلطان حمد المزروعي. سعيد الذي نهل من بيئته ميزات عدة، رسمت شخصيته لتكتمل معها لوحة حياة سطرتها أعمال الخير ومساعدة الأيتام داخل وخارج الدولة، والقيام برعايتهم مادياً ومعنوياً، عن طريق الجمعيات الخيرية لمواصلة تعليمهم، وتوفير الحياة الكريمة لهم ولأسرهم. وذات يوم، همست أمه في أذنه برغبتها في أن تفرح به، فامتثل لرغبتها وارتبط بابنة خالته، وأقيم حفل الزفاف عام 2000 في مدينة العين، وسط حضور الأهل والأصدقاء، لتكتمل فرحته التي ملأت عينيه تماماً، كيوم التحاقه بالقوات الجوية، ووجد في زوجته طيبة الأصل، هدوء الطبع. ورزقهما الله بأول مولود في عام 2002، سماه منصور، تيمناً وحباً في اسم الشيخ منصور بن زايد، ليملأ حياتهما حباً وسعادة، فقد كان يتلهف العودة إلى البيت لكى يلعب معه، والاستمتاع بضحكاته، فكان يرى في ابنه استكمال مسيرته الجوية للدفاع عن سماء الوطن ورفع رايته عالية خفاقة، ومرت الأيام، ورزق بطفلته الثانية سارة منتصف عام 2003، وهند عام 2005. ويقول أحمد الشقيق الأصغر للشهيد سعيد، إن استشهاد شقيقه عام 2006، ترك في نفوس الأسرة عزة لا تضاهيها عزة، مضيفاً أن الشهيد هو من قام بتشجيعه على العمل كمهندس ميكانيكي للطائرات في نفس القاعدة الجوية، ما ساعده بتمضية أكثر الأوقات مع شقيقه الشهيد، وخلال مهمة عمل خارج الدولة في يوم الثالث والعشرون من شهر أبريل، اتصل بي أحد الأصدقاء، لإبلاغي بسقوط طائرة الشهيد خلال مهمة تدريبية. فخر وأضاف أن الفترة التي تلت استشهاد أخي الأكبر، تاركاً زوجته وأولاده الثلاثة، كانت جديرة بالفخر والعزة، بعدما التفت قيادتنا الرشيدة، التي لم تدخر جهداً في توفير الحياة الكريمة لأسرة الشهيد، وتذليل العقبات أمام أبنائه، لتثمر العلاقة أسرة نموذجية.. وهم يتفوقون في حياتهم يوماً تلو الآخر، إلى أن التحق الابن الأكبر منصور بالمدرسة الثانوية العسكرية، والسير على نهج والده الشهيد، ليصبح طياراً حربياً مثله، وسارة وهند من الأوائل بمدرستهن، وواجهة مشرفة في المحافل الدولية. أبوة وخلال معرض دبي للطيران الأيام الماضية، حرص صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، باحتضان أولاد الشهيد، والتقاط الصور التذكارية، مردداً مقولته إن أبناء الشهيد هم أبنائي، ما زادنا فخراً بقيادتنا وشيوخنا، التي حظي الشعب الإماراتي بقيادة فريدة من نوعها، هدفها توفير أفضل سبل الحياة الكريمة لأبناء شعبها. وتقول أم منصور، لقد احتسبت زوجي شهيداً عند الله، عندما تلقيت نبأ استشهاده، ودارت الكثير من الأفكار في رأسي وأنا أودعه داخل مقبرة العائلة بمنطقة الغيل، كيف أستطيع مواجهة الحياة بدون رفيق دربي ووالد أبنائي؟، ولكن التفاف قيادات الدولة خفف حدة الصدمة، وزادني صبراً، فإن ما قدمته من كافة أشكال الدعم لأبنائي، أشعرني أن والدهم معهم. يوم الجمعة، له مكانة خاصة عند الشهيد سعيد، حيث كان يحرص على الالتقاء بجميع أفراد العائلة في منزل والديه، ومناقشة احتياجات المنزل، والجلوس لتناول الطعام.. حيث لا تكتمل سعادته إلا بتقبيل يد والدته، التي كان باراً بها، ويحرص على اصطحابها في رحلات العمرة والحج لأكثر من 22 مرة، مشيرة إلى أن الشهيد كان يقوم بتحفيظ القران لوالديه، وسط ضحكات السعادة التي تملأ وجهه، ونظرة الأم لابنها بكل فخر واعتزاز.