×
محافظة المنطقة الشرقية

مدارس الجوف تفعّل يوم الجودة في التعليم

صورة الخبر

تعرف الأدبيات السياسية التسميم السياسي political intoxication بأنه عملية ممتدة تهدف إلى تغيير عقلية النخب عبر إعلاء قيمة معينة على حساب قيم أخرى، بما يرتب تغييرا في البنى المؤسسية، بحيث يكون الهدف الجديد للنخب، وما يرتبط بها من مؤسسات تحقيق هذه القيم بصرف النظر عن الحاجة إليها. وهناك العديد من الأمثلة للتعرف إلى الآثار التي تنتج من التسميم السياسي، والتي طاولت للأسف منطقتنا العربية. فعبر عملية ممنهجة يُروّج لإعلاء قيمة النمو الاقتصادي مثلاً على قيم أخرى كعدالة التوزيع، ويترتب على ذلك تغيير البنى الهيكلية للمجتمع بحيث تنسحب الدولة تدريجاً من المجال الاجتماعي من دون إحداث توازن فعال بين أهداف النخب ومطالب القاعدة الشعبية الأوسع، وتكون النتيجة انفصاما بين النخبة وباقي القطاعات الشعبية، ما يفتح المجال لاضطرابات اجتماعية وسياسية تأثَّر بها الكثير من دول المنطقة. المؤسف حقاً أن عملية التسميم السياسي هذه يصاحبها عادة ثناء وإعجاب من بعض المؤسسات والمنتديات الدولية لرموز النخب التي تقود تغيير البنى دون النظر إلى الجوانب السلبية التي تطاول الغالبية الساحقة. وفي السياسة الدولية يروِّج بعض الدول لقيم كالانفتاح السياسي والمجتمعي غير المحدود من دون إدراك أثره على طبيعة النظم ومجمل الأوضاع، وتكون النتيجة غالبا تخلخل المجتمعات موضع التجربة من دون إمكانية العودة إلى الوراء. والشاهد أن منطقتنا تتعرض منذ مطلع القرن لعملية تسميم سياسي متشعبة تستتر خلف شعارات التحديث النخبوي والتطوير الفكري من دون حساب لقدرة المجتمعات على احتمالها. وفي العلاقات الدولية يشهد العديد من الأدبيات السياسية ترويجاً لفكرة أن الولايات المتحدة بصدد التحول إلى أن تصبح أكبر منتج للنفط الخام في العالم خلال أعوام قليلة، وأن ذلك كفيل بتراجع الأهمية الاستراتيجية للمنطقة العربية وبخاصة دول الخليج، وبالتالي فقد آن الأوان لاكتفاء واشنطن بالقيادة من الخلف بدلاً من الإنخراط المباشر في المنطقة، وأنه من الأجدر بها التركيز على البُعد الآسيوي ومراقبة الصعود التدريجي والمتواصل للصين. والمفارقة أن تداول هذه الأفكار يتم وسط تزايد الاهتمام العالمي بالمنطقة وأوضاعها، ووسط اتفاق القوى الكبرى كافة على أهمية ضمان استمرار إمدادات الطاقة من الشرق الأوسط وسيولة الملاحة في الطرق البحرية في المنطقة ذاتها. كما تتفق هذه القوى على ضرورة محاربة التطرف والإرهاب، واحتواء مخاطر تدفق ملايين المهاجرين عبر البحر المتوسط. وفي ظل هذه الأهداف الطموحة لا يمكن فهم منطق الداعين للانسحاب الأميركي من الانخراط في محاولة حل المشكلات التي نعانيها جراء عملية التسميم التي سبَّبت تخلخل البنى تأثراً بشعارات جاذبة اكتفى مروجوها بالتسويق لها من دون اهتمام حقيقي بفهم البيئة التي يجري فيها التسويق لهذه الشعارات. والغريب أن من يُروجون فكرة القيادة من الخلف يستشهدون بفشل السياسات الأميركية في أفغانستان والعراق، وكذا العجز عن تحقيق اختراق في النزاع العربي الإسرائيلى، وكأن مسؤولية الفشل ترجع إلى دول المنطقة وحدها دون التفكير بمدى ملاءمة الاستراتيجية الأميركية ذاتها، والمُحيِّر أن علاقات واشنطن بالمنطقة سمحت لها بتكوين آلاف الكوادر ممن يطلق عليهم المستعربين في وزارتي الخارجية والدفاع، وهؤلاء قادرون على إسداء النصح لصانعي السياسة الأميركية حول أنجح الطرق لتحقيق الأهداف دون الانخراط في التجريب. وغنيٌّ عن البيان أن أهم هذه النصائح التوقف عن فرض أجندة بعينها على شعوب المنطقة وحكوماتها وكذا التوقف عن إعلاء قيم وإسقاط أخرى.