مزيج من الخوف والفرح، تملك فداء وأشواق وروان وميار وعصمت ونحو 13 شاباً وشابة آخرين، ولعبة «الديسكفري» تحلق بهم في سماء منتجع «النور» وسط قطاع غزة. كان ارتفاع اللعبة، وحركتها الخاطفة السريعة، جل ما يخيف راكبيها، الذين امتلكوا القدرة على تحدي الخوف وملاعبته، فاختاروا أن يصعدوا إليها من دون الألعاب الأخرى، التي يحفل بها المنتجع. لم يدر بخلد هؤلاء الشبان أن يتحول هزل الخوف إلى جد فيقذف بهم من علو يتجاوز 12 متراً، نحو الأرض. فداء الحسنات (26 سنة)، الفنانة التشكيلية الصاعدة، كانت أشهر ضحايا سقوط لعبة «الديسكفري» في الثالث من عيد الأضحى، مثيرة موجة استياء عارم في الشارع الفلسطيني في قطاع غزة، على رغم تكالب القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستمرة عليه. أصاب الأذى «الفراشة» فداء كما تسميها عائلتها وأصدقاؤها، بعد أن فرمت اللعبة الضخمة ساقها، ما هدد ببترها، قبل أن تنقل إلى مستشفى إسرائيلي داخل الأرض المحتلة، وتخضع لمجموعة من العمليات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وتحولت النزهة القصيرة التي سعت إليها فداء إلى حادث أليم سيترك أثاره في نفسها وجسدها إلى أمد بعيد. لكن, لم تكن فداء الضحية الوحيدة، فشقيقتها أشواق جرحت على استدارة فخذها في شكل غائر، وكذلك كانت الطفلة هاجر المسارعي (10 سنوات) في حال أسوأ، بعد أن أجهزت اللعبة المحطمة على نصفها السفلي، لتخلف كسوراً عدة في حوضها، وساقيها، علاوة على جروح وكسور متفرقة في أنحاء أخرى من جسمها، أما الطفلة نغم الكرنز (11 سنة) فكانت إصابتها أقل خطورة. صور فداء وهاجر، ملأتا صفحات التواصل الاجتماعي لنشطاء فلسطينيين خصوصاً مستخدمي موقع «فايسبوك» الشهير. وفي وقت أظهرت الصور الطفلة هاجر على سرير العناية الفائقة، عرضت الصور المنشورة للشابة فداء جوانب من شخصيتها المرحة والفنية، ما أثار تعاطفاً كبيراً معها بين الشباب. وتداول النشطاء صورة لفداء وهي ترسم لوحة تشكيلية عن الشباب لمناسبة يومهم العالمي، في إطار فعالية محلية لرسم أطول جدارية عن الشباب في غزة. روان (20 سنة)، وميار (13 سنة) ووالدتهما عصمت أبو معيلق (39 سنة) كن أيضاً على متن «الديسكفري» عندما تهاوت إلى الأرض. وتقول عصمت: «ذهبنا إلى المنتجع أنا وبناتي، مع أخي وشـــقيقاتي وبناتهن للترفيه عن أنفسنا، ولم أتخيل للحظة أن ندفع ثمن هذه النزهة من صحتنا وحياتنا... كل ما أتمناه هو أن تعود فداء للسير على قدميها من جديد، وأن أستطيع النسيان». وتصف قسوة المشهد قائلة: «كنت انتظر مثل هذا المشهد طوال الحرب على قطاع غزة، لكن الله سلمنا من شرها، وإذا بالموت ينتظرنا في رحلة ترفيه!». وتشتكي عصمت خالة فداء وأشواق من «عدم اهتمام إدارة المنتجع أو الجهات الرسمية المختلفة بهم»، مؤكدة أنها لم تتلق حتى «اتصال تلفوني للسؤال عن حالها وحال بناتها». وهو ما كررته والدة الطفلة هاجر المسارعي، متسائلة عمن يتحمل مسؤولية ما حدث لبناتها. واحتارت الأم من تطبب، خصوصاً أن أبناءها الثلاثة شهدوا الحادث وتعرضوا لصدمة نفسية كبيرة، محملة المسؤولية للمنتجع الذي تتهمه بأنه كان على علم بتعطل اللعبة وعلى رغم ذلك استمر بتشغيلها. ولم تقف الشكاوى عند باب المنتجع الذي أعلن تشكيله لجان للتحقيق في الحادث، بل تعداه إلى دور سلطة الأمر الواقع في غزة، ومؤسساتها المختلفة، خصوصاً أن المنتجع يعود لجمعية خيرية تتبع لحركة المقاومة الإسلامية «حماس». وتجلت التفاعلات المتوترة على الحادث على شبكات التواصل الاجتماعي في شكل خاص، خصوصاً أن معظم مرتاديها من الشباب. وانقسم الشبان على هذه المواقع، بفعل الانقسام الفلسطيني، إلى متضامن مع فداء والمصابين من جهة إلى حد المطالبة بإغلاق المنتجع، ومحاسبة إدارته، وإلى مستهجن للهجمة إلى حد اتهامه باستثمارها لأغراض سياسية. وحفلت صفحات النشطاء بالآراء والآراء المضادة، لتصبح حادثة «الديسكفري» هاشتاغاً سياسياً ومجتمعياً، فاندفع بعضهم لكتابة مقالات، وعمل تقارير مصورة، ورسوم مختلفة لقيت شعبية كبيرة. وأطلق مجهولون صفحة دعت إلى إغلاق المنتجع ومحاسبة إدارته ولقيت إعجاب أكثر من خمسة آلاف مستخدم في أقل من ثلاثة أيام على إطلاقها. واتهم نشطاء المنتجع بالاستهتار بحياة الناس، خصوصاً أنه لم يغلق أبوابه أو يوقف دوران ألعابه لحظة واحدة، حتى عند وقوع الحادث. وطالبوا بالتحقيق ومحاسبة المتسببين، مشككين في اتخاذ المنتجع أي إجراءات لضمان سلامة المتنزهين، وهو ما أكده المدير العام في وزارة السياحة والآثار رزق الحلو عبر إحدى الإذاعات المحلية. وقال الحلو إن أكثر من 80 في المئة من الأماكن السياحية في غزة غير مرخصة بما فيه «منتجع النور»، كما أنه لا يوجد قانون ينظم العمل في هذه الأماكن العامة، ويضمن اتباعها لإجراءات السلامة... ولا يوجد لدى الوزارة فنيون مختصون بالألعاب الترفيهية أو المسابح. ومن الملاحظ في السنوات الأخيرة، تسارع وتيرة افتتاح المنتجعات والشاليهات وغيرها من أماكن الترفيه في غزة في شكل كبير. كما يلاحظ أن معظم روادها من الشباب من الجنسين، في محاولة منهم للترويح عن أنفسهم في مساحة لا تتجاوز 360 كيلومتراً مربعاً، هي مساحة القطاع المحاصر. يذكر أن أكثر من عشرة آلاف زائر أموا منتجع النور خلال أيام عيد الأضحى بحسب مديره بسام زينو. وتظهر مشاهد بانورامية لزوار هذه المنتجعات، واحتفالات افتتاحها، تعطش الشباب إلى مثل هذه البوابات الترفيهية، كما تجد ألعابها، خصوصاً الخطرة منها جماهيرية كبيرة في صفوف الشبان والمراهقين في بيئة تحفل بالمخاطر، وبعد عام واحد فقط على عدوان ضروس على القطاع خلف أكثر من ألفي شهيد، و12 ألف جريح. وربما يكون لهؤلاء عذرهم، خصوصاً أن أكثر من 480 ألف شاب وشابة في القطاع يجدون أنفسهم أمام خيارات محدودة لقضاء وقتهم، خصوصاً أن ثلثهم يلتحقون سنوياً بصفوف البطالة، بسبب ندرة فرص العمل، وإغلاق أبواب الخروج من القطاع مع استمرار إغلاق منفذي رفح وبيت حانون الوحيدين للخروج إلى العالم. وتفرض سلطات الاحتلال الإسرائيلي معايير محددة على من تسمح لهم بالعبور عبر حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة، الذي تطلق عليه اسم «ايرز»، فتمنع الشباب ما بين سن 16 و35 سنة من الحصول على تصريح خروج في شكل مبدئي، علاوة على ضرورة تقديم أوراق ثبوتية بأسباب السفر لمن تجاوز هذا السن. وتفتح السلطات المصرية كل بضعة أشهر معبر رفح جنوب قطاع غزة، بضعة أيام لخروج الحالات الإنسانية، التي لا يجد الشباب أنفسهم في خانتها إلا نادراً. وإن كانت خيارات الشباب في القطاع محدودة، فإن حادثة «الديسكفري» جعلتها أكثر محدودية، مع حال الرعب التي أثارتها في نفوسهم إزاء الثمن الذي يمكن أن يدفعوه مقابل «نزهة» قد لا يعودون منها سالمين.