لم يعد الفلسطينيون يملكون خيارات كثيرة ليتحركوا في إطارها، فقانون الاحتلال الذي حكم كل حركات التحرر الوطني في العالم، هو رفع ثمن الاحتلال، وجعل المحتل يدرك أن الاحتلال ثمنه أكبر بكثير من الاستمرار فيه. هذه قاعدة أساسية لم يطبقها الفلسطينيون بشكل مستمر، ولعل هذا قد يكون أخطر النتائج التي ترتبت على اتفاقات أوسلو، التي منحت إسرائيل حالة من الاسترخاء السياسي والأمني، وقللت من كلفة الاحتلال، ووفرت لها إطاراً عاماً لتثبيت سياسات الاحتلال بتبني برامج الاستيطان، والتهويد، وحسم قضية القدس بالفصل الزماني والمكاني، أو بعبارة أخرى تفريغها من مضمونها السيادي والحضاري والديني. الخطأ الذي وقع فيه الفلسطينيون وعاد عليهم بنتائج عكسية أنهم اعتمدوا على خيار التفاوض لفترة طويلة، ولم يتخلل هذه الفترة اللجوء إلى خيارات أخرى يتم خلالها تدفيع إسرائيل ثمن احتلالها بحيث لا تستطيع احتماله. وبدلاً من أن تتحمل إسرائيل تكلفة الاحتلال، تحملها الفلسطينيون في جوانب كثيرة من أهمها الانقسام السياسي، وصراع الخيارات ما بين خيار التفاوض الذي بات يدور في حلقة مفرغة؛ لأنه لا يستند إلى القوة المطلوبة، والمقاومة التي أجهضت بفعل الانقسام، وتفرد إسرائيل في التعامل معها. وهذا يفسر لنا لماذا تتعامل إسرائيل بقوة مع أي انتفاضة فلسطينية. والهدف هنا واضح، وهو الحيلولة دون تحول أي انتفاضة فلسطينية إلى عملية نضال طويلة تفرض عليها ثمناً لا تتحمله من مكوناتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. كما يظهر الآن فطريقة التعامل مع انتفاضة الشباب الحالية، والتي تخشى إسرائيل استمرارها، وامتدادها إلى داخل فلسطين 1948، ولذلك لجأت إلى استخدام أقصى درجات القوة، والقوانين الصارمة، والهدف واضح وهو الاحتواء السريع لها، وقد يساعدها هنا البيئة العربية والإقليمية التي تعمل ضد تطور الانتفاضة، والأخطر في هذه السياسات لصق صفة الإرهاب والعنف على مسيرة نضال شعب بأكمله. والخطأ الكبير الذي تكرره إسرائيل هو الثقة المفرطة في القوة التي تمتلكها، وقد ثبت عكس ذلك في قانون حركات التحرر، فكلما زاد الاستخدام المفرط للقوة زادت قوة حركات التحرر وردّ فعلها، واستعدادها لمزيد من التضحية. والخطأ الثاني هو الاعتماد على التحالفات الدولية، وهذا أيضاً لم يعد مضموناً في ظل تحولات القوة، والتحول في مفاهيم المصلحة المشتركة التي تحكم علاقات الدول، وهذه أمور تعمل لصالح الانتفاضة في المدى الطويل لو توفرت الرؤية والأهداف والآليات الواضحة. ويحتاج الفلسطينيون إلى مراجعة خياراتهم وسياساتهم ليس بهدف إدارة علاقاتهم بإسرائيل، ولكن من منظور إنهاء الاحتلال، فإسرائيل دولة احتلال، والفلسطينيون شعب تحت الاحتلال، إذن، العلاقة علاقة احتلال، وهذا يعني أنه لا أمل في عملية السلام، وأن الفلسطينيين لن يثقوا في خيار التفاوض بعد أن استنفد كل أهدافه، ولم يؤدِ لقيام الدولة الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال. ومن ثم لا بد من البحث عن خيارات أخرى أساسها إنهاء الاحتلال. وهذا يتطلب إعادة تعريف القضية الفلسطينية على أنها قضية احتلال، والشعب الفلسطيني شعب تحت الاحتلال ومن حقه أن يقاوم بكل الوسائل المشروعة التي يعترف بها العالم وتقر بها الشرعية الدولية. وفي هذا السياق لا يبدو في الأفق من خيار إلا خيار وضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كسلطة احتلال، وذلك بسبب عدم فعالية الخيارات الأخرى وخصوصاً خيار التفاوض. باختصار شديد لا يمكن لإسرائيل كدولة لها خصوصية غير مسبوقة أن تتعايش مع الانتفاضة لفترة طويلة، لأن من شأنها أن تفرض على إسرائيل ثمناً سيجبرها في النهاية على دفعه وهو إنهاء احتلالها. ويبقى السؤال: هل يملك الفلسطينيون هذه الرؤية وهذه الاستراتيجية؟ drnagish@gmail.com