فاجأ حزب العدالة والتنمية الجميع بفوزه الكبير في انتخابات الإعادة في تركيا بعد خمسة أشهر فقط من فقدانه للأغلبية البرلمانية، رافعا رصيده بنسبة %9، ومحققا أغلبية مريحة في البرلمان القادم تخوله تشكيل الحكومة بمفرده للمرة الرابعة على التوالي. الأسباب ففي حين توقعت له معظم استطلاعات الرأي زيادة طفيفة تعطيه أكثر أو أقل قليلا من الأغلبية المطلقة، لم يكتف العدالة والتنمية -وفق النتائج شبه النهائية وغير الرسمية- بتعويض تراجعه في الانتخابات السابقة ورفع نسبته بنفس الدرجة (9%) بل تخطى أيضا مجموع أصوات الأحزاب الثلاثة المنافسة له والمجاورة له تحت قبة البرلمان. قد تبدو النتائج للوهلة الأولى -رغم المفاجأة- منطقية ومتسقة مع المنحى التصاعدي للعدالة والتنمية منذ تأسيسه (حصل على 34% عام 2002، و46%عام 2007، و49.5%عام 2011) بمعنى أن الانتخابات السابقة كانت فعلا مجرد تحذير أو "قرصة أذن" له ليصوب بعض أخطائه. لكن نظرة أعمق ستشير إلى أسباب عدة ساهمت في النتيجة الصادمة، أهمها: " من أسباب ما حصل رغبة الأتراك بالاستقرار. فقد قامت الحملة الانتخابية للعدالة والتنمية على تقديمه ممثلا للاستقرار وضمانة له، إذ حافظ عليه طالما استمر يحكم منفردا منذ 2002، ولم يُفقد إلا مع فقدانه للأغلبية البرلمانية، ويبدو أنه استطاع إقناع الناخبين بذلك " أولا: رغبة الاستقرار. فقد قامت الحملة الانتخابية للعدالة والتنمية على تقديمه ممثلا للاستقرار وضمانة له، إذ حافظ عليه طالما استمر يحكم منفردا منذ 2002، ولم يُفقد إلا مع فقدانه للأغلبية البرلمانية، ويبدو أنه استطاع إقناع الناخبين بذلك. ثانيا: عجز المعارضة. فمقارنة مع الأداء الجيد نسبيا للعدالة والتنمية، فشلت أحزاب المعارضة المختلفة في تقديم نفسها بديلا عنه أو حتى منافسا له، فاعتمد حزب الحركة القومية سياسة عدمية رفضت كل ما قدم له من خيارات متعلقة بالحكومة مشاركة أو دعما، في حين فشل حزب الشعوب الديمقراطي في اتخاذ مواقف حاسمة من العمليات العسكرية لـ حزب العمال الكردستاني، فكان أن عاقبهما الناخب وصوّت للعدالة والتنمية. من جهة أخرى، رأى المواطن التركي كيف أخفقت مختلف الأحزاب في تشكيل حكومة ائتلافية (بقيادة العدالة والتنمية أو بدونه) مما أدخل البلاد في فترة من عدم الاستقرار السياسي، وما ترتب على ذلك من هزات اقتصادية وتدهور أمني، وخشي أن تؤدي نتيجة مماثلة إلى استمرار هذه الفترة الضبابية في البلاد، فاختار أن يجدد الثقة بالعدالة والتنمية. ثالثا: الخضوع لإرادة الشعب. وهي الرسالة التي حرص العدالة والتنمية على تصديرها منذ اليوم الأول لانتخابات السابع من يونيو/حزيران، دون تذمر من النتيجة أو لوم على الناخب، ثم جسدها في الواقع على مستوى الخطاب والشعارات والبرنامج الانتخابي وقوائم المرشحين. وهذه السياسة تحديدا أمنت للحزب نسبة 4-5% ممن قاطعوا الانتخابات السابقة عتبا/غضبا من سياساته. رابعا: قانون الانتخاب التركي. ثمة عوامل كثيرة تؤثر في نسبة تصويت حزب ما وفق القانون، أهمها مادة "العتبة الانتخابية" ونسبة الأحزاب المنافسة، ونسبة المشاركة في الانتخابات (87%) وتوزيع أصوات الخارج، وهي عوامل صب معظمها هذه المرة في مصلحة الحزب الحاكم بعد أن أفقدته الأغلبية النيابية في آخر جولة بفارق بسيط (تسعين ألف صوت و18 نائبا). دلالات الفوز وكما أن انتخابات السابع من يونيو/حزيران كانت لها عدة دلالات واستنتاجات مهمة على مستوى المشهد السياسي والحزبي في البلاد (يمكن مراجعة مقالنا في الجزيرة نت بهذا الصدد) فإن لهذه الجولة أيضا دلالات له دورها الحاسم في صياغة المشهد مستقبلا، وأهمها: 1- تراجع الأحزاب القومية التي ارتفع رصيدها في الانتخابات السابقة، وهما الشعوب الديمقراطي (القومية الكردية) والحركة القومية (القومية التركية) دون خروجهما من المشهد تماما والعودة لأحزاب الوسط، خاصة العدالة والتنمية. 2- استقرار المشهد السياسي في تركيا على أربعة تيارات تمثلها أربعة أحزاب سياسية، بحيث يمثل العدالة والتنمية أغلب المحافظين، والشعب الجمهوري معظم العلمانيين، والحركة القومية أغلبية القوميين الأتراك، والشعوب الديمقراطي يمثل قسما كبيرا من الأكراد. 3- عودة العدالة والتنمية ليكون مظلة تجمع أطيافا عدة من الشعب، محافظين وقوميين وإسلاميين وأكرادا وليبراليين وبنسبة كبيرة جدا (نصف الأصوات) بما يؤكد أنه الحزب الوحيد الحاضر والفائز على كامل الجغرافيا التركية، بينما تمثل الأحزاب الأخرى حالات مناطقية فقط. فقد رفع الحزب رصيده في المحافظات الـ81 كلها، بما فيها معقل الأكراد في الجنوب الشرقي، وقلعة الشعب الجمهوري على الساحل، ومأوى القوميين وسط الأناضول. 4- تململ داخل صفوف الحركة القومية بسبب الفشل وسياسات زعيمه دولت بهجلي، وهي تطورات مرشحة للتفاعل أكثر في المستقبل القريب، وقد تفرز انشقاقا داخل الحزب يصب في مصلحة العدالة والتنمية ويقلب ميزان التوازنات داخل البرلمان. 5- رفض الحاضنة الشعبية الكردية للتصعيد الأخير للعمال الكردستاني الذي أتى بعد سنوات من الهدوء والمكتسبات السياسية في ظل عملية التسوية، فعاد جزء من الأصوات للعدالة والتنمية - تعبيرا عن ثقة الأكراد به لحل قضيتهم- لكن دون إقصاء الشعوب الديمقراطي من البرلمان. 6- تكريس قيادة العدالة والتنمية مستقبلا دون منافسة تذكر، فـ حزب الشعب الجمهوري المناقض له أيديولوجيا وسياسيا (البديل البعيد) فشل في زيادة نسبة أصواته، وحزب السعادة المشارك له في الأيديولوجيا والحاضنة الشعبية (البديل القريب) قد فقد قوته التصويتية لصالحه. " ينتظر المواطن من حكومة العدالة والتنمية تنفيذا سريعا للوعود الاقتصادية المرتبطة بحياته اليومية، مثل الحد الأدنى للأجور ومكافأة نهاية الخدمة ونسبة الفائدة والبطالة وغيرها، فضلا عن المشاريع الاقتصادية العملاقة التي ستؤمن للاقتصاد التركي قفزات هو بأمسّ الحاجة إليها " 7- مرونة الناخب التركي وابتعاده عن القوالب الجامدة سهلة التوقع في الجولتين الأخيرتين، وهذا يعني أن رأيه ليس مضمونا ولا في جيب أحد، بل قد يبدل المشهد الحزبي متى ما أراد وفقا لتقييمه للأحزاب المختلفة. ملفات شائكة تنتظر أخيرا، خرجت تركيا من دوامة الفترة الانتقالية وحسابات الانتخابات وسيف الحكومات الانتقالية، وسيكون بإمكانها تشكيل حكومة مستقرة وقوية تستند إلى انتخابات شهد الجميع بنزاهتها وأغلبية برلمانية مريحة، مركزة على الملفات الكبيرة داخليا وخارجيا. فملف "الإرهاب" والصراع الحالي مع العمال الكردستاني سيحتاج من الحكومة حسما سريعا وواضحا، فضلا عن تنظيم الدولة (داعش) الذي دخل على الخط بعدد من التفجيرات الكبيرة، تأمينا للاستقرار الذي ينشده الناخب. وارتباطا بهذا الملف، ستكون الحكومة الجديدة أمام استحقاق إعادة ضخ الدماء في العملية السياسية مع الأكراد أو إخراجها "من الثلاجة" وفق تصريح أردوغان، لما لها من أهمية إستراتيجية في توطيد الوحدة الداخلية وضمان بقاء الأكراد داخل أطر العمل السياسي ونبذ العنف، فضلا عن إغلاق الباب على التدخلات الخارجية ودفع عربة التنمية، وتبدو اتجاهات تصويت الأكراد مشجعة على ذلك. كما ينتظر المواطن من حكومة العدالة والتنمية تنفيذا سريعا للوعود الاقتصادية المرتبطة بحياته اليومية، مثل الحد الأدنى للأجور ومكافأة نهاية الخدمة ونسبة الفائدة والبطالة وغيرها، فضلا عن المشاريع الاقتصادية العملاقة التي ستؤمن للاقتصاد التركي قفزات هو بأمسّ الحاجة إليها. ويبدو أنه قد حان الوقت ليعمل الحزب الحاكم على صياغة دستور جديد يخلص البلاد من قيود دستور العسكر المعمول به منذ 1982، بما يتضمنه ذلك من نقاشات النظام السياسي في البلاد وحقوق المواطنة الكاملة والحريات والإصلاحات الديمقراطية. ولئن لم يصل الحزب إلى نسبة ثلثي البرلمان لحسم الأمر تحت قبته أو 60% من المقاعد لعرض الأمر على استفتاء شعبي، إلا أن استمالته لأطياف من القوميين أو توافقه مع الأكراد قد يؤمنان له هذه النسبة، بما يهدي البلاد دستورا مدنيا ويساعد على تخفيف حدة الاستقطاب الداخلي. السياسة الخارجية لا شك أن الاهتمام الإقليمي والدولي بالانتخابات التركية يعكس أهمية هذه الجولة الانتخابية في بلورة السياسة الخارجية التركية في الفترة القادمة بين ثنائية الاستمرارية والتغيير. ففي المقام الأول: السياسة الخارجية انعكاس للوضع الداخلي، وتشكيل حكومة متجانسة وقوية ومستقرة سيكون له انعكاسه بلا ريب على استقلالية وثبات السياسة الخارجية، وهو ما قد يوحي بانتهاء حالة الاضطراب والغموض التي شابت الفترة الانتقالية على مدى الأشهر القليلة الماضية، التي شهدت أيضا تراجعات تكتيكية من قبل أنقرة، تمثلت بالسماح لواشنطن في استخدام قاعدة إنجرليك العسكرية، والانخراط العملي في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة، واللغة الهادئة في مواجهة التدخل الروسي في سوريا. " إن ثبات الصف الداخلي يعطي أنقرة دفعة كبيرة تساعدها على الثبات في الإستراتيجيات وتعطيها هامشا للمناورة والمبادرة في التكتيكات ببراغميتها المعروفة عنها، وهو ما برعت فيه أنقرة لسنوات طويلة عبر نسج التحالفات والشراكات واللعب في المساحات الرمادية " فالعمل السياسي -ومنه السياسة الخارجية- إرادة وقدرة، ولئن امتلكت تركيا نوايا طيبة أو إرادة ما في قضايا المنطقة، إلا أنها افتقدت في كثير من الأحيان الأدوات اللازمة لإنفاذ رؤيتها، ولنا في الملف السوري خير دليل. فبعد التأخر لسنوات طويلة بسبب اختلاف الرؤى مع الحلفاء قبل الخصوم، يبدو أن التدخل العسكري الروسي على حدودها الجنوبية قد أفقدها زمام المبادرة إلى حين، بل ربما قضى على إمكانات التغيير الجذري، وهو ما دفع أنقرة للاقتراب أكثر من واشنطن. إن السياسة الخارجية التركية -وخاصة فيما يتعلق بقضايا المنطق- ستكون أمام امتحان صعب في الفترة القادمة، حيث تتكدس أمامها أزمات وتعقيدات وحروب ستكون اختبارا لدهاء الثنائي أردوغان-داود أوغلو وقدرات القوة الناعمة التركية. وهو تحٍد يدركه صانع القرار التركي بكل تأكيد، كما يدرك حالة الاستعصاء في الإقليم وضرورة إخماد النيران في أكثر من بلد. لقد اعترف الساسة الأتراك وكثير من المحللين والمراقبين بفشل سياسة أنقرة الإقليمية في إحداث نجاحات واختراقات كبيرة، بغض النظر عن أخلاقية أو مبدئية هذه السياسة، وهو ما يفرض القيام بمراجعات حقيقية وتقييم موضوعي، سعيا للتقويم والتصويب. ويبدو أن هذه المراجعات/التصويبات قد بدأت بالفعل خلال الفترة الانتقالية من خلال ما ذكرناه من أمثلة، ولا نتوقع أن يتغير الحال كثيرا على المدى القصير. إن ثبات الصف الداخلي يعطي أنقرة دفعة كبيرة تساعدها على الثبات في الإستراتيجيات وتعطيها هامشا للمناورة والمبادرة في التكتيكات ببراغميتها المعروفة عنها، وهو ما برعت فيه أنقرة لسنوات طويلة عبر نسج التحالفات والشراكات واللعب في المساحات الرمادية وتجنب المواجهات المباشرة. في المحصلة، لا يمكن توقع قفزات كبيرة ومفاجئة في السياسة الخارجية التركية، بسبب الظروف الإقليمية والدولية المعقدة، لكننا سنشهد بطبيعة الحال سياسة خارجية تركية نشطة، تعمل بطريقة جمع النقاط ومراكمة العمل التكتيكي وتدوير زوايا التوتر مع بعض الدول الإقليمية. وتبرز في هذا الإطار أهمية التنسيق مع العواصم المتوافقة -ولو جزئيا- مع سياستها الإقليمية، تحديدا الدوحة والرياض، وهو "التنسيق" الذي ترغب تركيا في رفعه لمستوى "التحالف" وستعمل على ذلك على المدى المتوسط.