×
محافظة المنطقة الشرقية

تنفيذ حكم القتل تعزيراً في 3 إيرانيين هربوا كمية كبيرة من الحشيش

صورة الخبر

بقدر ما أن العنف ظاهرة ملازمة للوجود البشري فهو أيضاً موضوعة رئيسة لتعبير الإنسان عن ذلك الوجود في الثقافة بوجه عام والفنون على اختلافها بوجه خاص. الجديد ليس في وجود العنف أو في تناوله فنياً، سواء في التشكيل أو الأدب أو السينما بل حتى في الموسيقى، وإنما هو في كيفيات التناول وكثافته ودلالاته المتصلة بظروف متعينة، فالكيفيات وليس الموضوعات هي ما يتغير غالباً. ذلك أن كل الثقافات وكل المجتمعات عرفت العنف بأشكاله وألوانه ودرجاته وآثاره، وما يفعله علماء الاجتماع والنفس والفلاسفة ودارسو الفنون وغيرهم من المعنيين بهذه الظاهرة المؤلمة لمحبي الأمن السلام والتعايش هو تأمل هذه الظاهرة ودراستها وقياس آثارها وأسبابها. أما الكتاب والفنانون على اختلاف توجهاتهم فالمعتاد هو أن يستحضروا هذه الظاهرة لسببين رئيسين: أن يعبروا عن مواقفهم إزاءها بتصويرها من زاويا معينة. أن يوظفوها لإثراء أعمالهم درامياً، أي ببث روح الحركة والتوتر في العمل. السبب الأول سيبدو إنسانياً وطبيعياً أو متوقعاً، لكن السبب الثاني سيبدو سادياً في براغماتيته أو عمليته، أي ظهور الكاتب بمظهر المستمتع بالعنف وكأنه، سواء أكان شاعراً أما سارداً أم مسرحياً، يسعد بالعنف ليأتي عمله شاداً للانتباه، آسراً للمتلقي، داعماً للعمل وصاحبه. لكن هذا غير صحيح على إطلاقه، لأن السببين المشار إليهما يأتيان في الغالب متلازمين وإن لم يتساويا في الأولوية أو الأهمية، من حيث إن السبب الأول، أي إنسانية الكاتب تأتي هاجساً رئيساً يستصحب السبب الثاني دون أن يخضع لمتطلباته "الدراكولية" الباردة أو يغلّبها. ومع ذلك فإن دراسة الآداب والفنون تقف بالدارس على حقيقة أن الإبداع الفني بأنواعه يقتضي، في أحايين كثيرة، برودة عاطفية قد نسميها مسافة درامية تجعل الفنان يتعامل مع الظواهر بحرفية أو مهنية تخفف من شخصانية الموقف أو درجة قربه من العواطف. علاقة الرواية بوصفها جنساً أدبياً بالغ الانتشار، أو ربما مهيمناً في عالم اليوم، بالعنف تأتي من هذه الزاوية التي تجعلها علاقة حتمية أو طبيعية. فحين خطرت العلاقة ببالي وبدأت استعرض الأعمال التي أعرف ولها صلة بالعنف هالني العدد وتكاثر الأمثلة. هذا مع أن النماذج التي كانت في البال في البدء لم تزد عن اثنين أو ثلاثة. غير أن تكاثر العدد أدى إلى تكاثر أساليب التناول واختلاف الدلالات بحيث تضخمت الظاهرة، لاسيما حين تواردت في البال فنون أدبية وغير أدبية يهيمن على تصوراتها العنف الذي يحمل هو الآخر صوره الكثيرة المتنوعة ودرجاته المختلفة. إننا أمام ظاهرة هائلة الضخامة كلما أمعنت النظر فيها هالك حجمها وآلمتك مصائرها وظهرت لك درجات تعقيدها. تخيل فقط أن اثنتين من أشهر الروايات في الأدب العالمي تحيلان إلى العنف منذ العنوان: "الحرب والسلام" لتولستوي و "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي. وقس على ذلك اثنتين من أشهر الروايات في الأدب الأمريكي "الصوت والغضب" لفوكنر و"لمن تقرع الأجراس" لهمنغوي ، وكذلك "مائة عام من العزلة" لماركيز، وهي أشهر وربما أعظم روايات اللغة الإسبانية في العصر الحديث، التي تبدأ بتذكر مشهد إعدام. العنف، مرة أخرى، مكون أصيل وهائل الحضور في حياة الإنسان ومن ثم في مخيلته وما تبدع من أعمال. لكن قول ذلك لا يضيف جديداً، وإنما الجديد إن أمكن، على المستوى النقدي، فهو في النظر المعمق للحالات المتعينة من تلك العلاقة القائمة باستكشاف كيفية تمثلها إبداعياً، ومدى قيمتها وأثرها. تماماً كما لو أننا قلنا إن الحب أو السلام عنصر أساسي في الثقافات والفنون الإنسانية. لا جديد في تلك العموميات، وإنما هو في الوقوف على الأمثلة والبحث في كيفية تمثيلها لتلك العموميات، وما أدى إليه ذلك من نتائج موضوعية ولغوية وبلاغية وجمالية، إلى غير ذلك من مكونات ما نسميه الإبداع. ما تسعى إليه هذه المقالة وما يتلوها هو النظر في التناول السردي للعنف من خلال بعض أمثلة من الرواية التي صدرت في السنوات الأخيرة سواء محلياً أو عربياً وكيفية تمثلها للعنف الذي يشكل مكوناً سردياً أساسياً بقدرما هو موضوع أو ثيمة رئيسة تتناولها الأعمال. ولاشك أن السؤال الذي سيفرض نفسه منذ البدء هو حول المقصود بالعنف، أي أنواعه ودرجاته وأشكال تمثله في الأدب والفنون بعامة. لكن هذه الأسئلة ستنحو بنا منحى واسعاً وأكاديمياً لا أود التوغل فيه، وإن لم يكن بد من الوقوف وإن باقتضاب عند المقصود بالعنف، أي أنواعه. أما أشكال تمثله بعامة فمما يخرج عن إطار هذه المقالات. سأكون معنياً، بدلاً من ذلك، بتمثله في العمل الذي أتناول وليس في الرواية بشكل عام، فذلك يقتضي جهداً ومساحة لا أنا مهيأ له الآن ولا هي مما تتحمله مقالات في صحيفة. إن العنف الذي نحن بصدده عنفان: عنف سياسي وعنف اجتماعي وما بينهما مساحة مشتركة يبرز عليها عنف ديني هو مزيج من الاثنين أو هو يؤثر ويتأثر بهما معاً. يبرز العنف السياسي في روايات عربية غير خليجية في صورة حروب أو معتقلات وقمع مباشر في حين يهيمن على الروايات المعنية بالعنف في السعودية ودول الخليج العنف الاجتماعي ذو الطابع الديني غالباً. الكثير من الروايات المشار إليها معروفة لدى الكثيرين وتعد في طليعة المنجز الروائي العربي، ولكن منها ما أتيحت لي قراءتها ضمن عملي في لجنة تحكيم البوكر عام 2014 عندما هالني حجم العنف في الأعمال الجادة التي قرأت. فمن بين الأعمال العشرة في القائمة الطويلة يمكن القول إن ما لا يقل عن ثمانية منها معنية بشكل أو بآخر بالعنف بأحد شكليه اللذين أشرت إليهما. وهذه نسبة عالية ليس في كونها معنية بالعنف فحسب، فالعنف ظاهرة عالمية كما سبق أن أشرت، وإنما في نوع العنف ودرجته، ولربما في تكرار حضوره (لا أدري عن قائمة البوكر الإنجليزية أو المان بوكر مثلاً). من الأعمال التي يحضر فيها العنف واشتملت عليها قائمة البوكر أوكانت من الأعمال المقدمة ولفتت الأنظار لقيمتها الفنية والموضوعية: "طائر أزرق نادر يحلق معي" للمغربي يوسف فاضل، "لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة" لخالد خليفة، "غراميات شارع الأعشى" لبدرية البشر، "الإسكندرية في غيمة" لابراهيم عبدالمجيد، "طشاري" لإنعام كجه جي، "الفيل الأزرق" لأحمد مراد، "فرانكشتاين في بغداد" لأحمد سعداوي، "في حضرة العنقاء والخل الوفي" لإسماعيل فهد إسماعيل، "حامل الوردة الأرجوانية" لأنطوان الدويهي. إلى جانب اختلاف درجات العنف أو كثافته في تلك الأعمال، فإن هناك فوارقَ هي الأهم في تقديري: فوارق في نوع العنف ومصادره وآثاره. ولاشك أن تلك الأعمال المنتجة أو المنشورة في فترة متقاربة زمنياً (لا تتجاوز خمس سنوات على أبعد تقدير) مؤشر على الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي يمر بها العالم العربي، ليس من حيث وجود العنف وإنما من حيث نوع العنف ومصادره وآثاره، فعند هذه تتباين المجتمعات والثقافات والأوضاع السياسية وإن بأقدار متفاوتة. هنا نلمس خصوصية الأوضاع التي تؤدي إلى العنف أو التي تنشأ عنه. على أن من المهم في تناول موضوع كهذا ألا يضيع الإبداع الروائي، حرفية الفن، وجماليات السرد، في معمعمة الانشغال بتأمل العنف ودلالاته وأنواعه ودرجاته. والعارفون بالدرس الأدبي المطلعون على صعوباته يدركون أن ذلك مطلب ليس بالهين في مقالات تسعى إلى التعريف بانشغال مهم من انشغالات السرد الروائي العربي في وقتنا هذا، التعريف الذي تسعى هذه المقالات إلى الاضطلاع به.