توفي النائب العراقي وزعيم حركة المؤتمر الوطني أحمد الجلبي، في بغداد يوم الثلاثاء الماضي عن عمر ناهز الـ70 عاماً، عُمْرٌ لم يخلُ من المغامرات والجرأة على اختلاق الخصوم وبناء المصالح في حدود تتجاوز الأوطان وإن تعارضت معها كانت الأوطان الضحية. الجلبي وإن نُعي من قبل رئيس مجلس النواب العراقي معتبراً الراحل من أبرز الوجوه السياسية العراقية في مرحلة ما بعد الإطاحة بنظام صدام حسين. أو بوصف وفاته من قبل الرئيس العراقي فؤاد معصوم بأنها خسارة لا تعوض، إلا أنه في نظر الكثيرين عراب الغزو الأمريكي للعراق 2003، وهو اللاعب الرئيس في دفع وتعجيل التدخل الأمريكي في العراق، ذلك أنه قدم معلومات كاذبة إلى الإدارة الأمريكية حول امتلاك نظام صدام لأسلحة دمار شامل وربطه بصلات مع تنظيم القاعدة بعد 11 سبتمبر. وتبين في وقت لاحق أن تلك المعلومات لم تكن دقيقة أو ذات مصداقية، اعتذر عنها الغرب واعترف انه تسرع وأن حرب العراق كانت كارثة، فما أطيح به ليس صدام حسين عدو الجلبي بل العراق العظيم، الذي بشر الجلبي ووعد اصدقاءه بأنه بعد الإطاحة بصدام سيكون نموذجاً لدولة الديمقراطية التعددية، وها هو العراق اليوم نموذج للفوضى والخراب والدم. آل الجلبي محررون فاتحون ينتسب آل الجلبي لقبيلة طي العربية، ومن طي البومحيي ومن البومحيي بيت الجلبي في الأعظمية حيث الحي الشهير في بغداد أو ما يعرف بمدينة الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان، وتشير كتب التاريخ الى أن جد بيت الجلبي هاجر إلى العراق عام 1638م من جزيرة ابن عمر التركية (وهي اليوم تتبع محافظة شرناق قرب الحدود العراقية شمالاً)، برفقة السلطان العثماني؛ للمساهمة في تحرير بغداد من الاحتلال الصفوي الذي بدأ عام 1623 مع الشاه عباس بن طهماسب الأول الذي عُدَّ أقوى الملوك الصفويين وأشرسهم وأكثرهم إفراطاً في التشيع وبغضاً للسنة، واستمر الاحتلال مع الشاه صفي الأول حتى تحرير بغداد. آنذاك ضج المسلمون من مذابح أهل السنة في العراق وأفغانستان، فصدرت الفتاوى من علماء الأحناف في مصر والشام وغيرها مطالبة السلطان العثماني مراد الرابع بتخليص أهل السنة من الصفويين في العراق، وقد حاول سلاطين آل عثمان أكثر من مرة، فأرسل السلطان مراد جيشه إلى العراق وقاده بنفسه محاصراً بغداد سنة (1047هـ = 1638م)، وسيطر عليها، وأعادها للحاضنة العربية ودخلها فاتحاً في 18 شعبان 1048هـ/ 25 ديسمبر 1638م، بعد أن كانت في أيدي الصفويين لمدة 15 عاما. بين احتلال صفوي وأمريكي تمتد تفاصيل تاريخ عائلة الجلبي حليف للسلطة الملكية ورافض للجمهورية التقدمية، تاريخ ليس كله خيانه أو عماله، متجسدة في شخص الجلبي وحده، ولا تختصره شخصية أحمد الجلبي، بل فيه تناقض في مشهد دخول العراق والعودة إليه، وسببه تقدم الأسرة لبغداد مع جيش سني محرر من هيمنة صفوية شيعية قبل مئات السنوات، وعودة أحمد الجلبي والعائلة مع الاحتلال الأمريكي عام 2003 الذي مكن الفرس مرة أخرى من احتلال الصفوية الفارسية للعراق للمرة الثالثة. من الأعظمية إلى الكاظمية نال آل الجلبي السنة آنذاك وبمعية السلطان العثماني مراد الرابع الذي منحهم الاقطاعات والاراضي بعد تحرير بغداد واستقرارهم فيها حظوة كبيرة وحضوراً فاعلاً، إذ برز منهم الحكام والوزراء الذين خدموا العراق وكان منهم عبدالحسين الجلبي (1876-1939) الوزير والنائب لأكثر من عشر مرات وابنه الوزير عبدالهادي (1897-1988) الشهير بعمله في الرياضيات، ووالد الوزير رشدي (1917-1980) والراحل الوزير والسياسي احمد الجلبي1944-/نوفمبر 2015). ومن أولاد عم بيت الجلبي: آل الجلبي في الاعظمية منهم احد رواد الفكرالقومي في العراق أحمد عزت الأعظمي 1880-1936 والعلامة عبدالوهاب الأعظمي 1928-2008، وهم عائلة واحدة كانوا كلهم على المذهب السني عندما جاؤا للعراق الا أن عائلة الدكتور أحمد الجلبي سكنوا الكاظمية واعتنقوا المذهب الشيعي وهؤلاء بقوا على المذهب السني، فيما حصل بيت الجلبي المتشيع بين عامي 1920-1958 على (17) منصباً وزارياً و(13) مقعداً في مجلس النواب العراقي. اشتهر جد أحمد الجلبي عبد الحسين الجلبي بأنه خدم في 9 مناصب وزارية عراقية وكان أول وزير معارف في حكومة عبدالرحمن النقيب الأولى التي شكلها بداية سنة 1921م أما والده عبد الهادي الجلبي فكان عيناً في مجلس الاعيان العراقي إبان العهد الملكي وعرف كصاحب مبرات خيرية في الكاظمية والعراق كافة وبنى أول مستشفى اختصاصي للأطفال (مستشفى أطفال الكاظمية) لحماية الأطفال، وتولى عدة حقائب وزارية إذ أصبح وزيراً للمواصلات والأشغال في وزارة أرشد العمري الأولى وفي وزارة نوري السعيد التاسعة، ووزيراً للاقتصاد في وزارة طه الهاشمي، وتميز عبدالهادي بحكمته وكان وسيط الحكومات العراقية مع المرجعيات الشيعية. عملت أسرة الجلبي في الصيرفة وحققت ثروة كبيرة وكان لها نفوذٌ كبير وسمي الحي الذي تسكنه بحي عبدالهادي ولاحقاً مدينة الحرية واشتهر بستان آل عبدالهادي فيها حتى اليوم، وإبان العهد الملكي كانت قريبة على الأسرة المالكة، أما سبب تشيع الأسرة ففي أحد أسبابه كان الهروب من سياسات التجنيد العثماني التي كانت تتجنب ادخال شيعة للجيش، فتحولت عائلات كثيرة للمذهب الشيعي. مغادرة العراق والعمل المصرفي في الأردن غادر أحمد الجلبي في العام 1958 مع عائلته إلى الأردن، وهو صبي في الرابعة عشرة من عمره، وذلك بعد الإطاحة بالحكم الملكي في العراقي إثر انقلاب 14 تموز 1958. خرجت العائلة إلى زمن جديد، فأمضى فيما بعد شبابه متنقلاً بين عمان ولندن وبيروت وواشنطن، متقلبا بين العلم والمال والسياسة. امتاز الجلبي بمثابرة كبيرة على تحقيق ما يريد والتحالف مع كل ما يستطيع من أجل بلوغ هدفه، ساعده ذكاؤه على اجتياز أكثر مراحل الدراسة صعوبة وتخرج وهو شاب من جامعة جونز هوبكنز في الولايات المتحدة.ولاحقاً درس الرياضيات في جامعة شيكاغو فحصل منها على درجة الأستاذية، ثم درس في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا. وعمل أستاذاً للرياضيات في الجامعة الأميركية ببيروت، وفيها تزوج من عائلة عسيران، كانت بيروت غير آمنة بسبب ظروف الحرب، وبعيدة نسبياً عن العراق وإن عمل فيها على إعادة الصلات بين العائلات الشيعية التي شردت من العراق إلا أنه لم يجد ضالته فيها.في عام 1977 دعاه الأمير الحسن بن طلال ولي عهد الأردن آنذاك إلى تأسيس بنك البترا في الأردن، وحينها دخل الجلبي مسالك السياسة الأردنية وتعمق في التأثير على النخب الأردنية وربطته علاقة كبيرة برجالاته، وفي غضون سنوات صار بنك البتراء أحد أبرز بنوك الأردن، بنك ما زالت ملفاته سرية حتى اليوم وما زالت عصابته التي عملت بمعية الجلبي حاضرة في المشهد. بعد عامين قامت الثورة الإيرانية، ثم بفترة وجيزة بدأت حرب العراق مع إيران، وقف الأردن لجانب العراق ومعه كل العرب، لكن الجلبي كان آنذاك يعلن معارضته الواضحة لنظام صدام حسين في حين كانت تجارة السلاح المتدفقة إلى العراق تمر عبر ميناء العقبة، والتي عمل هو فيها، ليخرج من عمان عام 1989، تاركا وراءه قصة لم تطو بعد في الأردن اسمها البتراء غيت. والتي مهدت الطريق كأزمة مصرفية إلى انهيار قيمة الدينار الأردني عام 1988 ثم أحداث العام 1989 أو ما سمي بهبة نيسان والتي أدخلت لعنة برامج البنك الدولي للأردن. اعتبر الجلبي مُهَرّباً ومخرباً ومقاول حروب ولصا محترفا، فمنذ خرج من الأردن لم يهدأ، لم يكن يحمل قضية وطنية اسمها العراق، بل رغائب سلطة متدثرة بالماضي، وحقيبة مال، فأضحت شخصيته ثاوية في عقدة المال والثروة والعمامة السياسية، وظل محكوما من القضاء الأردني بـ 22 عاماً ومطلوباً بملايين الدنانير حتى وفاته. انتقل بعد الأردن إلى بريطانيا، لكنه عاد الى العراق عام 1992 بعد اقامة قصيرة في لندن يقال إنها أسست إلى التعارف بينه وبين أجهزة المخابرات في الولايات المتحدة آنذاك أصبح رئيساً للمؤتمر الوطني العراقي المعارض في عام 1992ـ ويومها بشر الجلبي أن العراق الجديد سيحمل لواء الديمقراطية في المنطقة. من جبال كردستان وبدعوة من رئيس الإقليم قاد الجلبي حركة النضال ضد نظام صدام حسين، وبقي هناك متنقلا يجمع تمويلا للمعارضة حتى عام 1997، ثم غادر للولايات المتحدة وقاد فيها جهداً منظماً ضد العراق مما ساهم بتهم الغرب للعراق بامتلاكه أسلحة كيماوية وهو ما ظهر أنه كذب انطلى من كولن باول على مجلس الامن، فاسهم الجلبي بصناعة حرب عالمية لم تنته حتى اليوم، رجل أقنع العالم بذكاء كبير بضرورة الخلاص من صدام حسين. مع الاحتلال وما بعده عام 1998 قام الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بإقرار خطة لإنفاق نحو 90 مليون دولار لمساعدة المعارضة العراقية، وخصوصاً المؤتمر الوطني العراقي بهدف الإطاحة بنظام صدام حسين. وجاءت الحرب على الإرهاب بعد 11 سبتمبر 2001 لتعيد العراق وصدام والقاعدة للواجهة ويعود وجه الجلبي حضوراً وتأثيراً، ثم بوقت قصير تحتل العراق ويعود الجلبي على متن الدبابة الأمريكية ويصبح أحد أعضاء مجلس الحكم في العراق والذي شكل في عام 2004، والذي سلمت له مقاليد الحكم، هناك كان عليه أن يعود لطائفيته ويعيد العراق معه إلى حرب مذهبية وانقسام لم ينته بوفاته.خلال مقابلات صحفية بعد عودته للعراق، قلل الجلبي من احتمالات أن يتولى دوراً رئيسياً في أي حكومة مقبلة. قائلاً «شخصياً، لن أسعى لكي أصبح رئيساً للعراق، ولا أبحث عن المناصب. ومهمتي ستنتهي بتحرير العراق من حكم صدام حسين». دعا الجلبي إلى تشكيل حكومة ائتلافية لنقل البلاد إلى حكم ديمقراطي ببناء فيدرالي يمثل جميع الأعراق والطوائف. وبعدها قام بتأسيس ما يسمى بالبيت الشيعي مع بعض السياسيين الشيعة.صار الجلبي رئيساً للمؤتمر الوطني العراقي ورئيس اللجنة المالية النيابية في البرلمان العراقي بعد الاحتلال، وفيها تحققت له ثروة جديدة من الفساد والسرقة للوطن الذي بشر بأنه سيكون جديدا تعدديا ديمقراطيا، وظل في منصبه حتى وافته المنية انتهت مهمته في الحياة، وقبلها انتهى العراق الموحد إلى دويلات واقاليم وفوضى وخراب، تتحكم في ثروته مجموعة لصوص وسراق، يصعب اليوم لجم عنانهم وكبح جماحهم، برغم كل نوايا رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي الإصلاحية.