لم يبتعد أبو عثمان الجاحظ عن جادة الصواب حين رأى في الكتاب فرصة ثمينة للتنزه والارتحال نحو عالم المتع الروحية والعقلية. ولا جانب المتنبي الحقيقة حين اعتبره الجليس النموذجي الذي لا يمل المرء من صحبته، ولا يخشى بالمقابل من عواقب الاقتراب منه. وإذا كان أبو الطيب قد اعتبر بأن ذوي العقول الراجحة والمستنيرة يعيشون في شقاء دائم، حتى داخل النعيم نفسه، فهو يدرك تمام الإدراك بأن الجانب الآخر من الصورة مغايرة تماماً. إذ إن متعة المعرفة لا تعادلها في العمق متعة أخرى، والكشوف الناجمة عن القراءة والإطلاع توفر للمرء لذة روحية عارمة لا قبل لملذات الجسد على منافستها. وكان الأبيقوريون قبل ذلك بقرون عدة، وعلى رأسهم زينون، قد وصلوا إلى استنتاج مماثل وأحلّوا المعرفة في مكان الصدارة من متع الوجود الأرضي. إن المرء ليحار تبعاً لذلك في عزوف العرب عن القراءة، حتى باتوا من هذه الزاوية يصنفون في أدنى درجات سلم الإقبال على الكتب واقتنائها. إذ كيف لهم أن ينسوا، وسط تعدد المعجزات التي أتى بها الأنبياء القدامى، بأن معجزة نبيِّهم الكريم تجلت في الكتاب دون سواه، وفي اللغة دون غيرها؟ وكيف لهم أن ينسوا بأن أول ما طلبه الخالق من رسوله هو حثه على القراءة قبل أي شيء آخر؟ ولم يكن الطلب الإلهي المقدس سوى تعبير بالغ الدلالة عن حضور اللغة في التاريخ وعن دورها المزدوج في توفير التواصل الأمثل بين الخالق والمخلوق من جهة، وخانات الزمن الثلاث، الماضي والحاضر والمستقبل، من جهة أخرى. ولعل أحد أفضل التفاسير المتعلقة بفعل الماضي الثلاث قرأ هي تلك التي ترد في لسان العرب وتربط بين القراءة والحياة نفسها. فقد جاء في معجم ابن منظور: هذه الناقة ما قرأت جنيناً قط، أي لم يجمع رحمها على ولد. والعلاقة بين القراءة والجمع تؤكدها الآية الكريمة إن علينا جمعه وقرآنه. وقد سمي القرآن قرآناً لاجتماع سوره وآياته في كتاب واحد. وليس بعيداً عن هذا التفسير الذي يربط بين اللغة والخلق ما ورد في العهد القديم من أنه في البدء كان الكلمة، حيث لا فاصل بين الفعل كن وبين الكينونة ذاتها. كل معرض للكتاب إذاً هو استعادة رمزية للكلام التأسيسي الذي يعطي اللغة بعدها الخلاق وقدرتها على جعل الحياة على الأرض أقل قسوة وفظاظة، وأكثر أهلية للعيش والانتشاء بجمال العالم. إذ نحن هنا أمام حدائق وارفة الظلال من المعارف والأفكار وخلاصات الحيوات التي انصرفت. وحين نلج الباب الرئيسي لأي معرض للكتاب نشعر بأننا نترك وراءنا كل ما يتصل بترهات الواقع اليومي وضغوطه المتراكمة، لنغوص في أكثر المتاهات صلة بالشغف والفضول والامتلاء بالغبطة الروحية. ثمة هنا ما يشبه العودة إلى الرحم الأولي للسعادة الفردوسية الخالصة من ربقة الغرائز المنحطة، ومن درك الضغائن والحروب والأحقاد. لهذا لا يرى المرء في ملامح الوجوه التي يتصفحها داخل المعارض سوى شعور غامر بالطمأنينة والمصالحة مع والتواصل الحميم مع الآخرين. الإنسان هنا حاضر بكامل إنسانيته، والأنا تحضر ناقصة لتكتمل بحضور الآخر وتغتني بغناه، سواء كان هذا الآخر شبيهاً أو مغايراً، شريكاً في الرؤية إلى الواقع أو واقفاً على الجانب الآخر من الحقيقة. والأحياء الذين يتجولون في المعارض ليسوا فقط ضيوف المبدعين والكتاب المتبقين على قيد الحياة، بل هم بنسبة أكبر ضيوف المبدعين الموتى، الذين تركوا في عهدهم خلاصات أعمارهم ومكابداتهم وعقولهم الخلاقة. لا يملك المرء أخيراً سوى أن يشعر بالفرح والزهو وهو يعاين المكانة التي انتزعها معرض الشارقة الدولي للكتاب وسط معارض الكتب العربية والعالمية المماثلة. ليس فقط من خلال مساحاته التي تؤول عاماً بعد عام إلى المزيد من الاتساع. أو من خلال الأعداد المتزايدة لدور النشر المشاركة في احتفاليته الدورية، بل من خلال رواده وزائريه الذين يحتشدون بالآلاف للوقوف على ما تضخه المطابع من كتب وإصدارات جديدة، ولإعطائه طعم العيد وهم يلتقون في أروقته وزواياه ليطمئن بعضهم إلى بعض ويواصلوا ما انقطع على مدار العام من صلات المودة وخيوط الذكريات. إضافة بالطبع إلى الأنشطة الثقافية الموازية، وإلى الندوات والأمسيات التي يقف على منصتها جمع غير قليل من مبدعي الأمة وشعرائها ومفكريها، كما من مبدعي العالم القادمين من أربع رياح الأرض.