يتيح التاريخ الشفهي النظر إلى الأحداث نظرة عصرية أكثر مما يتيح التاريخ المدون. كما يتيح التمعن في قضايا اجتماعية غالبا ما تكون غير معروفة للتاريخ المدون مثل: قضايا المرأة، وقضايا ذوي الاحتياجات الخاصة أو بعض قضايا الشباب والرياضة الحياة تجارب، والتجارب تخضع للنجاح أو الفشل، ومن هنا تكتسب التجارب أهميتها بيد أنها – أي التجارب- تشكل رصيداً ضخماً من الإنتاج الفكري والحضاري للفرد والمجموعة. وقد قيل قديماً: "مَنْ جرّب المجرّب حلّت به الندامة" ولذا فمن العبث أن تجرّب تجارب غيرك الفاشلة، أو أن تبدأ من حيث بدأ الآخرون، بل عليك أن تبدأ من حيث انتهى إليه الآخرون، لأنّ هذا هو الطريق الأفضل لاختزال المسافة. ومن حديث التجارب: تجربتي مع التاريخ الشفهي. والسؤال الأول ما المقصود بالتاريخ الشفهي؛ ذلك أن التراث الشفهي مادة متاحة للمتخصصين في علوم إنسانية واجتماعية متعددة. ولعل علماء الأنثروبولوجيا هم أول من انتبه لأهمية التراث الشفهي، ثم جاء بعدهم المتخصصون في الفلكلور، ثم جاء بعدهم المهتمون بالشعر النبطي أو الشعبي. أما المؤرخون فهم آخر من دخل هذه الدائرة الغنية والمهمة. التاريخ الشفهي هو التاريخ المروي، وهو عبارة عن تسجيلات تحتوي على ذكريات أناس كان لهم مشاركة في الشأن العام. وورد أن أحد رواد التاريخ الشفهي في الغرب قال: قبل ثمانين سنة أو أكثر بزغت فكرة التحدث إلى أناس يُنظر لهم أنهم من صُناع التاريخ. لكن قيمة التاريخ الشفهي أنه المصدر الأوسع والأكثر صدقية للتاريخ الاجتماعي من أي مصدر آخر. والتاريخ الشفهي أبان القيمة الحقيقية للخبرة الفردية، وأعطى للتاريخ بُعدًا إنسانيًا. وهو أعطى ويُعطي التوازن بين دور العامة ودور الأبطال. ويضيف التاريخ الشفهي التبصر العميق حول التداخل بين الخصوصية الفردية وبين مجرى الأحداث. ويتيح التاريخ الشفهي النظر إلى الأحداث نظرة عصرية أكثر مما يتيح التاريخ المدون. كما يتيح التمعن في قضايا اجتماعية غالبا ما تكون غير معروفة للتاريخ المدون مثل: قضايا المرأة، وقضايا ذوي الاحتياجات الخاصة أو بعض قضايا الشباب والرياضة وكل هذه الصفات مفقودة بدرجة كبيرة في التاريخ المدون أو المسلَّمات التي يعدُها البعض جزءا من التاريخ المدون. بدأ التاريخ الشفهي رسميا في دائرة المؤرخين في بريطانيا وذلك قبل ثمانين سنة. ويبدو أن أهمية التاريخ الشفهي واستعماله كمصدر تاريخي تزداد في الآونة الأخيرة. ولعل ما أخر دخول التاريخ الشفهي في البلاد العربية، والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص هو أن المؤرخين ينظرون إلى ذلك التاريخ نظرة غير جدية، ويعدونه ضربا من "السواليف" غير المقننة التي لا تليق بالمؤرخ. على أن الاهتمام بالتاريخ الشفهي في الغرب يزداد بوتيرة مقبولة، خصوصا في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. وهما تأتيان على رأس الدول الغربية في هذا الشأن، ويوجد في معظم المدن الإنجليزية مكتبات ومراكز أرشيفية تهتم بجمع التاريخ الشفهي المحلي وحفظه، وتُقدم للباحثين والراغبين خدمات جليلة. واليوم تضاعف عدد المترددين على أشرطة تسجيل التاريخ الشفهي ما يعني الاعتراف بدور التاريخ الشفهي في سد النقص الذي عجزت المصادر المدونة عنه بالنسبة لتغطية احداث الماضي. مرت تجربتي مع التاريخ الشفهي بعدة محطات: الأولى كانت الانضمام إلى جمعية التاريخ الشفهي بلوس أنجلوس في عام 1982. وقد مكنتني العضوية من حضور ندوات الجمعية، وورش العمل المهنية، كما مكنتني من التعرف على المختصين والتحدث إليهم، وكذلك اقتناء بعض مؤلفاتهم، والحصول على الدورية التي تصدرها الجمعية، ما زاد حصيلتي العلمية، وفتح لي أبوابا لم أكن أعرفها من قبل. جاءت المحطة الثانية بعد عودتي من البعثة في مطلع عام 1406 /1985 وحيث كنت أملك الحماس لتطوير التاريخ وإدارته. ومما فكرت فيه مع بعض الزملاء هو تأسيس وحدة للتاريخ الشفهي في القسم. وقد شرعت ابتداءً على تشجيع طلاب مقرر الرسالة القصيرة المسجلين عندي على كتابة رسالاتهم اعتمادا ولو جزئيًا على اجراء مقابلات مع بعض المسنين الذين لهم علاقة بموضوع الرسالة. كما فعل بعض زملائي الشيء نفسه، وتُوج ذلك بموافقة قسم التاريخ على تشكيل مجموعة من أعضاء القسم لوضع أسس علمية وإدارية ومالية تمكننا من تأسيس: وحدة التاريخ الشفهي. وقطعنا شوطًا لا بأس به، لكن اعترضنا سلوك أدى إلى اجهاض الفكرة بعد مضي حوالي ستة أشهر من التفكير والعمل. أما تجربتي الثالثة والتي أعدها تجربة أرضت طموحي، فقد قمت في حدود عام 1988 بالعمل مع نفر قليل من منسوبي دارة الملك عبدالعزيز على تأسيس مركز التاريخ الشفهي، ووضعنا الخطوات والطرق العلمية لإجراء المقابلات الشفهية مع كبار السن في مختلف مناطق المملكة من الذين كانت لهم تجارب إدارية أو مهنية أو تجارية أو معرفية. ثم انتخبت الدارة مجموعة من موظفيها ليكونوا نواة الفريق العلمي الذي يقوم برجراء المقابلات الشفهية مع المستهدفين. ورأت الدارة أن أقوم مع بعض المهتمين بالتاريخ الشفهي بإلقاء محاضرات عن التاريخ الشفهي وآلياته، وكيفية إجراء المقابلات وكيفية وضع الأسئلة. كل هذا أدى إلى تأسيس مركز التاريخ الشفهي في الدارة، وهو المركز الوحيد في المملكة، وقد قطع من عمره أكثر من عقد ونصف العقد. ولما تركت التعاون مع الدارة كان المركز قد انجز تسجيل ما مقداره 500 مقابلة. وتجربتي الرابعة عندما رأيت أن أبحث عن كتاب أجنبي معترف به علميا ومهنيا، يعيننا على العمل في تأسيس مركز التاريخ الشفهي خصوصا أنني رأيت النقص الحاد في وجود كتاب مهني مختص أو دليل للتاريخ الشفهي يساعد المشتغلين في المركز على تناول هذا النوع من التراث المحلي. ووقع اختياري على كتاب: التاريخ الشفهي: حديث عن الماضي. تأليف د. روبرت بيركس Robert Perks. وقد نشرته الدارة عام 1424. أما تجربتي الخامسة التي رافقت التجارب الأربع وتتلخص في قيامي بأعمال علمية، ذلك أنني نشرت بعض البحوث العلمية منها: (1) أهمية تدوين التاريخ الشفهي. مجلة الدرعية عام 2007 (2) التاريخ الشعبي. مجلة الخطاب الثقافي، 2008. وكذلك المشاركة بأوراق عمل في ندوات علمية منها: (1) أهمية تدوين التراث الشفاهي كمصدر تاريخي ألقيتها في ندوة مناهج توثيق التراث الشعبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، 2000، (2) التاريخ الشعبي في ندوة مستقبل الثقافة في العالم العربي، الرياض 2002..