طيلة قرن وثلاثين سنة من الاحتلال الفرنسي للجزائر، حاول المستعمر خلالها بكل السبل طمْس الهوية الجزائرية بممارسة عملية المسخ الثقافي واللغوي الذي ارتكن إلى محوِ الشخصية الجزائرية التي تكونت بفعل التراكمات التاريخية، إلا أن كل هذه المحاولات انتهت ذات ليلة من نوفمبر بشرارة ثورة أطلقها شعب اكتوى بنيران الظلم والطغيان، لتندلع ثورة مضفرة دامت 7 سنوات كان ثمنها مليون ونصف المليون شهيد. بيد أن الجزائريين، استيقظوا غداة الاستقلال، على هول معركة أخرى، توقّد سعير نقاشها حول موضوع الهوية، فهل استطاع الفرد الجزائري تأسيس هوية ذات خصوصيات جزائرية بعيدا عن تأثير ووطأة الثقافة الفرنسية؟ يرفض الباحث في الحقل الديني، سعيد جاب الخير، الاعتراف بوجود شيء اسمه "الاستعمار الثقافي" أو"الاستعمار الهوياتي"، لأن "حركة الأفكار والثقافات حرة "، وهذا هو الذي يسمح - حسبه- بـ "وجود شيء اسمه التسامح وقبول الآخر والعيش المشترك بين الشعوب والأديان والثقافات، وكذلك الحال بالنسبة إلى مسألة الهوية". فإذا كان الاحتلال الفرنسي لم يتمكن طيلة 132 سنة من مسخ هوية الشعب الجزائري، فكيف يمكنه ذلك بعد أن استرجعت الجزائر سيادتها الوطنية؟ - يتساءل محدثنا - ،وينصح جاب الخير بألا نبقى "في حالة حزن مؤبد على العلاقة الصراعية الإشتباكية الدامية التي جمعتنا بالمحتل الفرنسي في مرحلة من مراحل التاريخ" ، داعيا إلى "تجاوز هذا إلى بناء علاقات جديدة منفتحة ومثمرة للشعبين الجزائري والفرنسي"، وفق شرط الاعتراف الكامل والتحمل الكامل للتاريخ المشترك بإيجابياته وسلبياته وفي الضفتين على حد تعبيره. ويرى الباحث في حديثه لـ CNN بالعربية، أن المشكلة لا تكمن في الاحتلال أو في مستعمر الأمس، بل يلقي اللوم على " الدولة الوطنية الجزائرية التي انخرطت في مشروع تحديثي منقوص وحداثة منقوصة وبالتالي لم تنجح حتى الآن في إنتاج المواطن"، متأسفا على الثورة التحريرية التي " لم تحقق سوى الهدف العسكري". أما أستاذ علم الاجتماع بجامعة مستغانم الدكتور مصطفى راجعي، فيعتبر أن مفاهيم الاستعمار الثقافي و الهوياتي ليست محل إجماع في العلوم الاجتماعية" وذلك راجع في اعتقاده إلى "أن الجزائريين مازالوا مستعمرين ثقافيا"، و يضيف راجعي " أن تأثير الإرث الفرنسي لا يتجلى لدى الجزائريين ولكن يظهر في إدارة الشأن العام التي مازالت تسير وفق التقليد البيروقراطي اليعقوبي المركزي الموروث عن الثورة الفرنسية". ويُجمع الباحثون على أن موضوع الهوية على درجة كبيرة من الحساسية والتعقيد، نظرا لتشعبه وتشابكه وهذا ما ذهب إليه الباحث الدكتور عبد القادر رابحي، الذي يرى ضرورة إعادة طرح سؤال الهوية انطلاقا من "تحديد ما يعتري الذات من شك تجاه الآخر و من هو الآخر إذن إذا كانت الذات تنسج وجودها بمعزل عنه" أو "عن أحدهما دون الآخر"، معللا كلامه بـ "أن خصوصية الهوية لا يمكن أن تتأسس بدون ما يحيط بها من عوالم و ما يعتبره بعضهم مؤثرا خارجيا يعتبره بعضهم مكونا أساسيا في الهوية". وواصل رابحي حديثه لـ CNN بالعربية "لا يصوغ الهوية فرد وفقا لرغبته الملحة لأنها أعقد من أن يتولاها فرد واحد مهما كانت عبقريته و قدرته على ذلك"، موضحا أن "حركية المجتمع هي التي تصوغ الهوية مع الزمن مراعية عناصره الأساسية التي هي اللغة و الدين والتاريخ و الانتماء الحضاري". ويُختصر دور الفرد - حسب رابحي- في "تمثّل هذه العناصر وتحويلها إلى رؤية هوياتية غير معقدة لا من ماضيها لكي تنكره، و لا من حاضرها لكي تتنصل منه، و لا من مستقبلها لكي تخاف منه"، مستنتجا "الهويات المغلقة لا تؤدي إلاّ إلى التلاشي و الذوبان في منظومة الآخر الثقافية و الحضارية و اللغوية". رغم مرور واحد وستون سنة منذ انطلاق ثورة التحرير التي حررت الشعب الجزائري من الاحتلال الفرنسي، يبقى النقاش حول موضوع الهوية بالجزائر-على عِلاته- يترنح بين فرضية التأسيس لهوية جزائرية وتأثير ثقافة المستعمر.