كانا جالسين على طاولة الطعام يتناولان وجبة العشاء عند منتصف الليل، لم تنبس الزوجة ببنت شفة وهي تسترق النظر إلى زوجها الذي هزل في الأيام الأخيرة و أصابه شحوب الأموات، لقد كان يعاني من الأرق حتى أنه لم يعد ينام إلى جانبها ليلا، ليبقى على الأريكة في صالة المنزل طوال الليل أو يمكث في مكتبته يقرأ و يكتب.. كانت ترمقه بنظرات اختلط فيها الشعور بالعطف، و اللوم .. مضت شهور طويلة و هما على هذه الحالة المزرية، من الصمت الطويل القاتل، ويبدو بأن الأمر يزيد سوءا .. لقد تحوّل زوجها الذي كان يتمتع بمزاج عال و متغطرس، لا يخلو من خفة الظل و حس الدعابة، إلى وحش عصبي، ساخط على الدوام، ذي مزاج غائم و كئيب، و ها هو الآن يجلس إلى جانبها كإنسان هزيل، يائس يأكل نفسه من تعذيب الضمير، لقد اتسعت الفجوة بينهما حتى أن الصمت أصبح لا يُطاق.. ألقت بالشوكة والسكين على الطاولة...وهي تنظر إليه شاردا في طبق الحساء الذي يقلّبه بالملعقة.. - إلى متى سنظلّ على هذه الحال؟ رفع نظره إليها بعينين يغرق بياضهما الباهت في بئرين مظلمين ليس لهما قرار .. وردّ عليها بفتور .. - حتى أحرق جميع كتبي.. لم تتمالك الزوجة نفسها، وطفرت من عينيّها دمعتان حانقتان.. - أنت تعرف بأن هذا مستحيل !! كتبك موجودة في معظم البيوت، و لو أحرقنا هذه الكتب لن نستطيع أن نمحوها من الذاكرة.. خفض عينيه إلى طبق الحساء مرة أخرى .. وقال: - لقد ارتكبت خطأ لن أسامح نفسي عليه عندما اتجهت للكتابة، لقد كشفت للناس عوراتي و عيوبي حتى أنهم يعيّروني بها.. ذلك الخبيث يقرأني بذكاء رهيب، لقد وجه لي إهانة لن أنساها .. كنت أعتقد بأن اللغة ستبقى وفية لي، و لكنها خانتني .. لقد همست له بأسراري .. و ها أنا ذو «مادة» خصبة للدراسات المريضة لهؤلاء الذباب المزعجين. - لا تأخذ الأمر على محمل شخصي .. كلنا نعرف بأن تلك القصص والروايات مجردّ خيال، أن الكاتب يختلق كل شيء.. - نعم الكاتب يختلق و لكن ليس كل شيء، الكاتب حاضر و بقوة، و أعماله تفضح مكنونه، إن الكتابة فعل تعرّي و لا يدرك ذلك سوى القاريء الذكيّ .. أنا لا أطيق ان أكون بهذا الانكشاف أمام أحدهم .. جدير بالكاتب أن يتوقف عن فضح نفسه لو صادف قارئا كهذا، عليه أن يحرق نفسه، كتبه، و تاريخه لكي لا يصبح موضوعا يتسلّى به هؤلاء .. إن المسألة بالنسبة لي مسألة كرامة .. لقد تعرضت للإهانة ! - إذًا، سأتولى الأمر بنفسي .. سأريحك من كل شيء .. من كل تلك الكتب التي لم تجلب لنا سوى الهمّ و الألم.. قامت الزوجة من مكانها و ذهبت إلى مكتبه، أخذت كل كتبه و مسوّدات عمله الأخير و الدموع تتقاطر من عينيها، وضعتها على طاولة خشبية بالقرب من المدفئة التي تشتعل فيها نيران الشتاء .. كان ينظر إليها وعلامات الذهول بادية على وجهه و قد اتسعت عيناه و هما ترقبان ما تفعله بفضول .. وقفت أمامه و في يديها أحد الكتب و ألقت به في النار «انظر .. كل الكتاب يريدون أن يصلوا إلى ما وصلت إليه .. كل الكتاب .. كل الكتاب» أخذت تلقي كتابا تلو الآخر.. و لكنها سرعان ما أمسكت بمسودات عمله الأخير حتى قفز من مكانه و أخذ يصرخ «لا أرجوك» ولكنها لم تبالِ لصراخه .. و ألقت بها دفعة واحدة، لقمة سائغة في فمّ النيران.