ربما يتضح الآن - أكثر من أي وقت مضى - مدى أهمية التآزر والتلاحم بين الثقافتين الإسلامية والعلمية للتعريف بالإسلام ، إسلام القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، والدفاع عنه في مواجهة كل محاولات التشكيك والتضليل في أصوله وفروعه على السواء، ومن عجب أن يسعى كثيرون من المحسوبين على الإسلام وغيرهم إلى تحميل الخطاب الديني وحده مسؤولية ما يعانيه العالم الإسلامي من صراع وتناحر، وما وصل إليه من جهالة وتخلف، فيسلطون الضوء على ضرورة تجديد الفكر الديني فقط من دون سائر أنواع الخطاب التي تحتاج هي الأخرى إلى تنقية وإصلاح وتطوير وتطهير، بعد أن أصابها الوهن والخلل والاضطراب وعدم القدرة على إبصار الأولويات وقراءة متغيرات العصر المتلاحقة. نعم.. يكتسب الخطاب الديني أهمية خاصة بسبب قدسية الدين وأهميته لحياتنا.. لكن ألسنا بحاجة ماسة أيضاً، وبالدرجة نفسها، إلى تطوير الخطاب التربوي والتعليمي، وإلى ترشيد الخطاب الفني والإعلامي، وهل يغيب عن أصحاب النظر السليم أن الأمة العربية والإسلامية تعاني اليوم من أزمة مستحكمة، ليس بسبب نقص في قدراتها وإمكاناتها، أو عجز في مواردها وثرواتها التي حباها الله تعالى بها في البر والبحر والجو، وإنما بسبب افتقادها لرؤية كونية متوازنة، تنطلق من مرجعية فكرية رشيدة توجه إلى حسن التعامل مع هذه الموارد والثروات، وتعين على ذلك النسب المختلة، لتحدد صورة المجتمع الذي نريده في المستقبل؟ وهل يخفى على أولى الألباب أن ما يزيد الطين بلة، ويوسع الخرق على الراقع، هو وقوع المشاركين في التنظير والحوار أسرى لأيديولوجياتهم الخاصة، وتشبثهم بفلسفات وأنساق فكرية قديمة أو وافدة، سقط معظمها سقوطاً ذريعاً من حركة التاريخ لأنها خالفت طبيعة الوجود الإنساني، وانحرفت عن قواعد الناموس الكوني العام؟ ألم يعلموا، مثلاً، أن الأمية بكل أنواعها تقف حائلاً منيعاً يعيق كل جهود البناء والتنمية في أي مجتمع من المجتمعات، سواء على المستوى الفكري، أو على مستوى التطبيق؟ وأن هذه الآفة اللعينة من شأنها أن تؤثر سلباً في وضوح الرؤية ومعايير التقييم والمراجعة، وتضيع معها جهود التصويب والإصلاح؟ إن أزمة الأمة على هذا النحو ذات أبعاد متعددة، يشارك فيها التعليم والإعلام والتربية بصورة مباشرة، وتتحكم فيها كل الموارد الفكرية والثقافية مجتمعة، ومن ثم لا ينبغي تسليط الضوء على الخطاب الديني فقط، لأننا بحاجة ملحة إلى أن يشهد واقع الأمة المتردي تجديداً واعياً ومدروساً للخطاب الحضاري بكل أنواعه وعناصره، وربطه بمواجهة مختلف تحديات العصر. ولعلنا لا نبتعد عن الحقيقة كثيراً إذا قررنا أن تجديد الفكر العلمي على وجه الخصوص يدعم بقوة جهود تجديد الفكر الديني، بعد أن أصبح جدار التخلف سميكاً ويحتاج إلى جهد فائق لحث الهمم واستثارة العزائم، من أجل فهم الإسلام - إسلام القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة - فهماً صحيحاً يساعد المسلمين على تغيير واقعهم وحياتهم نحو الأفضل دائماً، ويمكنهم من المشاركة في حضارة العصر مع المتقدمين بكل ندية واقتدار. إن غياب الخطاب العلمي العصري، أو ضعفه، تأصيلاً ومعاصرة في آن معاً، ظاهرة سلبية في ثقافتنا العربية الإسلامية التقليدية، التي لا تزال تختلط فيها التصورات الشعبية بالأفكار والآراء ذات الصبغة الدينية أو العلمية، وقد تجاوزتها حقائق العلم المعاصر الذي يتصدى الآن لأمور كانت تعد من الغيبيات، وأصبح يعمل بأجهزته الدقيقة وأدواته العملاقة في تخوم الميتافيزيقا، هناك في أعماق الذرة والخلايا الحية، أو عند هيئة الكون في اللحظات الأولى من نشأته، ألم يحض الإسلام الحنيف على السير في الأرض والبحث في كيفية بداية الخلق، فقال تعالى في قرآنه الكريم: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق (سورة العنكبوت: 20). ألم ينفرد القرآن الكريم بالسبق المعجز إلى تقرير حقيقة كونية عن أصل الكون تمثل تحدياً مستمراً للعلم البشري مهما تطور وتقدم، فقال تعالى: أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما (سورة الأنبياء: 30) وعن غيبية أصل الكون التي يعلم الله وحده حقيقتها كاملة قال تعالى: ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا (سورة الكهف: 15) لكن غيبة هذه القضية لم تمنع العلماء - بحكم تعاليم الإسلام - من أن يواصلوا البحث والتنقيب عنها، باعتبارها آية كونية تحمل مفتاح التعرف إلى مكونات الأرض وتاريخ الحياة عليها، فضلاً عن إعمارها حضارياً: هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها (سورة هود: 61). د. أحمد فؤاد باشا www.afbasha.com