البرلمان الذي جرت انتخاباته في 14 محافظة مصرية، كمرحلة أولى، يومي الأحد والاثنين من الأسبوع الماضي، هو أول برلمان سوف تشهده البلاد، منذ برلمان الإخوان، الذي انعقد وانحل، قبل نحو ثلاث سنوات!. ولأن البرلمان الجديد، هو الأول هكذا، منذ أيام حكم الجماعة الإخوانية، فإن المتوقع كان أن تشهد لجان الاقتراع إقبالاً يليق برغبة كل مواطن في أن ينتخب برلمانًا، يراقب أعمال الحكومة - كما يجب، ويتولى تشريع القوانين للمواطنين، كما يجب أيضًا. ولكن المشكلة التي لا يزال محللو السياسة يبحثون لها عن تفسير، أن هذا لم يحدث، وأن إقبال الناخب، في المحافظات الأربع عشرة كلها، كان دون المستوى الذي طمح إليه الجميع في مرحلة ما قبل بدء العملية الانتخابية، بكثير! وعندما أقول إن تراجع الإقبال، بشكل ملحوظ، بل وبشكل مزعج، قد شمل المحافظات الأربع عشرة كلها، فإنني أقصد أن أقول، إنه حتى المحافظات الثلاث أو الأربع بينها، التي يجري تصنيفها، على أن فيها وجودا للتيار الديني أكثر من غيرها، جاءت مماثلة لغيرها، من باقي المحافظات، من حيث انحسار نسبة الحضور بصورة مقلقة! وهذا، بالضبط، هو موضع الحيرة، لأنك كمراقب لمزاج الناخب في مصر بوجه عام، يمكن أن تلتمس أسبابًا عدة، لعدم تحمسه في غالبيته، لأن يذهب، ويشارك ويختار، ولكنك عندما تفتش عن أسباب مشابهة، يمكن أن تشكل عذرًا، للسلفيين، فإن الحيرة تستبد بك، وتبدو المسألة كلها أمامك، عصية على الفهم، وعلى الاستيعاب! إن حزب «النور»، كان هو أكثر الأحزاب في البلد، طرحًا للمرشحين في الدوائر الانتخابية، وليس هناك معنى لأن يكون هذا هو موقعه، من حيث عدد مرشحيه، مقارنة بسائر الأحزاب، مدنية وغير مدنية، سوى أنه كان ينافس بقوة في أغلب الدوائر، وأنه كان يراهن على أن يفوز بأكثر عدد ممكن من نواب البرلمان.. غير أن الحضور الهزيل، في دوائره، ومحافظاته، ولجانه، والمؤشرات الهزيلة أيضًا، التي تسربت إعلاميًا على الأقل، عن حجم أصواته، تقول إن قواعده الشعبية، التي كان يباهي بها، ويخيف بها الآخرين، لم يكن لها الوجود المتوقع أمام صناديق الاقتراع.. وتلك كذلك، مسألة تبدو، وكأنها لغز. لكن بشيء من التأمل، في واقع الحال، منذ ثورة 30 يونيو 2013، التي أزاحت الإخوان من الحكم، إلى غير رجعة، سوف يتكشف لك أنه لا لغز في الحكاية، ولا يحزنون! ففي وقت صياغة خريطة الطريق، التي يمثل البرلمان خطوتها الثالثة، كانت قيادات «النور» موجودة مع الرئيس السيسي الذي كان وقتها لا يزال قائدًا للجيش، وكان معهم شيخ الأزهر، وبطريرك الكنيسة، وغيرهما، ممن حضروا صياغة الخريطة، في 3 يوليو (تموز)، أي بعد اندلاع الثورة الشعبية ضد الإخوان، بثلاثة أيام. كانت قيادات «النور» موجودة، في أثناء صياغة خريطة الطريق، وكانت مشاركة، وكانت مباركة للخريطة في إجمالها، بما يعني أن الحزب، قيادة وقواعد - كان في الموقع ذاته، مع باقي قيادات الدولة ورموز المجتمع. ولكن الحقيقة لم تكن كذلك بالضبط، لأنه قد تبين، وقتها قليلاً، ثم فيما بعد كاملاً، أن هناك مسافة بين قادة «النور» كحزب، وبين قواعده الشعبية، أيًا كان حجمها، وأن الطرفين لا يقفان في مربع واحد.. وكانت تلك في حد ذاتها مفارقة مدهشة! كانت مدهشة، لأن المتعارف عليه والمفترض في أي حزب، أن في داخله شيئا يحكمه في العادة، اسمه الالتزام الحزبي. ورغم أن هذا الشيء، يبقى غير مكتوب بطبيعته، فإنه يظل ملزمًا لكل عضو في الحزب، سواء كان هذا العضو، هو رئيس الحزب، أو هو مجرد عضو عادي فيه، ويعني الالتزام الحزبي أن يلتزم العضو، بتوجهات الحزب، حتى وإن لم يقتنع بها. شيء من هذا، غير حاصل في «النور»، لأنه في الوقت الذي كانت قياداته تجلس فيه مع قيادات الدولة، ورموزها، حول خريطة الطريق، كانت قواعد لا بأس بها، تتضامن مع الجماعة الإخوانية، وتوجد مع قواعدها، في ميدان رابعة! وفي الوقت الذي وعدت القيادات نفسها، بنزول أعضاء الحزب، في انتخابات الرئاسة، أو في الاستفتاء على الدستور، لاحقًا، لم يحدث شيء من ذلك، وكان الواضح، الذي ازداد وضوحًا، خلال انتخابات المرحلة الأولى من البرلمان الجديد، أن «النور» يمكن أن يكون أي شيء، إلا أن يكون حزبا بالمعنى الصحيح للأحزاب، وأن قياداته في جانب، وقواعده في غالبيتها، في جانب آخر تمامًا، وأنهم، مع غيرهم من خارج الحزب، قد خسروا الرهان، في كل مرة راهنوا فيها، على أن «النور» حزب، بالمعنى المفهوم!.