الدار البيضاء: فؤاد الفلوس وجوه ساكنة ومتحولة، كانت تؤكد في وقت سابق على فكرة المعاودة المستمرة باعتبارها نوعا من الوسواس التشكيلي المتسلط، الذي يستبد بالفنان المغربي يونس الخراز ولا يجد سبيلا إلى الفكاك منه لكن تبين الخراز في معرضه الحالي بالدار البيضاء، تحت عنوان «الأقنعة والمرايا»، أنه لا يعود ولا يعاود، بل يستأنف ويواصل، أو بالأحرى يواصل ما كان استأنفه في كل محطة أو وقفة من وقفاته الإبداعية السابقة. لم تتغير الوجوه وموضوعها، بل تغير أيضا مكان عرضها، حيث اختار الفنان عرض لوحاته في مكتبة خلقت الألفة بين الكتاب واللوحة، وامتزجت داخلها ألوان القاعة بألوان الصباغة. إذ توزعت أزيد من 22 لوحة بين دفتيها مجموعة من الكتب، لم تكن مبعثرة بقدر ما كانت عليه من تحالف وتعايش بين الورق والصباغة. عرف افتتاح المعرض حضورا كبيرا ومتنوعا من فنانين وأدباء وباحثين في المجال الفني. وأوضح الخراز لـ«الشرق الأوسط» أن بعضا من أعماله بدأ يأخذ توجها تجريديا أكثر مما كان من قبل، حيث تموقع بين الواقعي والتشكيلي. وحول سبب هذا الانتقال، قال الخراز: «لا يمكنني تفسيره لأن الإبداع خرج أكثر مما فكرت فيه، ربما العامل من التجربة أو التراكمات التي عشتها في مختلف مناحي الحياة ودروبها». وعد الخراز أن الأكثر تأثيرا في الوجه هو الرؤية، مضيفا أن العين هي التي تتحرك وربما نتكلم بالعين أكثر مما نتكلم بالفم، وزاد قائلا: «أركز بالضبط على موضوع العين النظرة، أما الوجوه تبقى موضوعا، ولكن داخل كل وجه يمكن رؤية الطبيعة وأشياء أخرى حسب زاوية الرؤية لدى واحد». ونفى الخراز أن يكون لديه عائق مع الوقت في رسم لوحاته، بيد أن بعضا منها اشتغل عليه لأزيد من أربع سنوات، موضحا أن بعض اللوحات يتفوق في رسمها وأخرى يفشل، بمعنى أن تكون هناك لحظة توقف وتأمل ليجد لها حلا ودخولا في موضوعها، مشيرا إلى أنه توقف عن رسم بعض لوحاته وأكملها بعد خمس سنوات. الخراز يختار دائما النهار كوقت مفضل للرسم، رافضا الاشتغال بالليل تحت ضوء المصابيح، حيث أكد أنه يفضل الرسم تحت ضوء الشمس، ويبدأ منذ الصباح الباكر حتى وقت الغروب. ويرى المهندس المعماري عبد الواحد منتصر، أن العرض هو فرحة من خلال الوجوه والألوان، مفيدا بأنه لا يعرف هل هي وجوه أطفال أم نساء أم رجال، وقال: «لكنهم أشخاص تهمني كثيرا ملامحهم وتعابيرهم، ففي وجوههم أقرأ أشياء كثيرة، وهي بصمة الفنان يونس الخراز»، مضيفا أن في العرض يجد الفرحة والتساؤل، حيث إن الملامح تسائلنا في تأمل العالم الخارجي الذي خلقهم هم». وذكر الشاعر المغربي محمد بنيس أن اللوحات هي معرض للفرح بالحياة والألوان التي تنبعث منها أضواء متعددة، مبرزا أن ما يشده إلى هذا العمل هو الاشتغال على وجه الطفولة خاصة الوجه الأنثوي لما يحمله من نظرة متفحمة ومركزة على ما يوجد أمام العينين. ويعتقد بنيس أن الخراز يعطي رؤية مختلفة عن هذه الطفولة التي تحملها فتاة تنظر إلى العالم نظرة بريئة، لكن هذه البراءة تكاد تصل إلى رؤية ما هو مرعب في العالم الخارجي. ويرى بنيس أن الأعمال فيها احتدام الحالات النفسية، وفيها انطباعية وتعبيرية قوية تجعل العمل اندماجا كليا في دواخل الشخوص التي يقدمها، وقال: «هذه الألوان والاحتفاء بها كأنها رقع لونية مخيطة بشكل جمالي، تجعلنا نحس أنه في الوقت نفسه عندما يقدم لنا الوجه الأنثوي فهو يحتفي بالكون المحيط به، ويجعل دائما الفرح حاضرا بقوة من خلال الضوء حتى نكاد أحيانا نفقد التوازن في العمل الفني». وبخصوص أسلوب الخراز، أكد الفنان التشكيلي المغربي ومدير مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء، عبد الرحمن رحول، أن الخراز لديه أسلوبا خاصا به، وهو متميز في طريقة عمله، وقال: «أصبحنا نرى أعماله ونتعرف عليها مباشرة من دون رؤية توقيعه، ذلك ما يؤكد أن له بصمة فنية خاصة باتت مشهورة»، ويعتقد رحول أن أعماله الجديدة فيها تصور ممتاز أكثر من الأعمال السابقة، لأنه بدأ يتحرر من تلك المجسمات من الواقعي إلى الفن التشكيلي المعاصر. ومن جهته، شدد الشاعر والمترجم المغربي المهدي أخريف، على أن ما يملكه الرسام هو يده المدبرة والمصورة التي تصنع الوجوه وتبتكر النظرات وتضع النظارات للأقنعة وتوزع اللمسات والألوان، مبرزا أن اليد هي التي تقتفي الأثر فيما يفيض عن الصباغة هنالك فيما وراء النظرة والملمح المتبدل في كل آن في الوجه «اليونسقليسي» في اللوحة. وأظهر أخريف أن الخراز يحاول أن يستولد هنا من كثافة التصوير الزيتي بإيقاعاته البطيئة ملامح غير مألوفة من قبل في الوجه «اليونسقليسي»، ملامح صورت بلمسات موزونة سريعة فيها اقتصاد وبرود بقدر ما فيها من تجريد وهمود. وقال: «أعرف جيدا أن الوجه الواحد المتعدد أضحى الشغل التشكيلي الشاغل ليونس منذ أكثر من عقد من الزمن، أي منذ أعماله المعروضة في (كاديس) عام 2001 تحت عنوان (أقنعة بلا وجوه)، التي مثلث نقلة فنية فاجأت الكثيرين، سواء في المغرب أو في الجارة إسبانيا». وبشأن أعمال الخراز الجديدة، ذكر أخريف أن الخراز أمضى أكثر من ثلاثة شهور في «نحت» تصويري متواصل لأوجهه القديمة المتجددة بمحترفه الواقع بقرية «الحومر» المجاورة لمدينة أصيلة، مضيفا أنه ليس محض محترف، بل منزل أنيق جميل في قلب طبيعة فاتنة خلابة أبدع في تصميمه المهندس المعماري عبد الواحد منتصر، وقد اتخذه يونس مقرا شبه نهائي لإقامته منذ أكثر من سنتين.