×
محافظة المنطقة الشرقية

التجارة تحذِّر من شركات نصب تدّعي تصنيع وبيع الشاحنات

صورة الخبر

لعلها المرة الأولى تحضر «رزين تاج»، الشخصية الإيرانية الملتبسة التي سميت «قرة العين» في عمل روائي أنجزته هالة كوثراني واختارت له عنواناً ملتبساً بدوره هو «كاريزما» (دار الساقي). كُتبت دراسات عدة باللغات الأجنبية عن هذه «السيدة» التي قتلت عام 1852 في السادسة والثلاثين من عمرها، ومعظمها تناول سيرتها وفكرها اللاهوتي الثوري ونضالها النسوي. أما عربياً فوضعت عنها كتب قليلة ومنها «بكاء الطاهرة: رسائل قرة العين» (دار المدى). شاءت هالة كوثراني ان تستوحي شخصية هذه المرأة «المناضلة» والمثقفة والمتنورة لتجعل منها بطلة واقعية وشبه متخيلة في آن، بطلة تاريخية وروائية في ما يعني التقاطع بين التاريخ والسرد الحر. وقد نجحت في اعتماد هذه الصيغة التي اتاحت لها الابتعاد قدر الإمكان عن الإشكال الديني الذي احاط بهذه الشخصية المضطهدة إيرانياً، وعن فكرها الممنوع و»المسكوت» عنه. شخصيتان واقعيتان هما عزة، المرأة العجوز (84 سنة) التي تعيش حالاً من الانتظار، ورشا صديقتها الشابة التي تقارب الثلاثين وبينهما شخصية متخيلة هي تاج، تحضر من خلال الكتاب الذي تقرأه رشا للعجوز، وهو كما تسميه الروائية «الكتاب ذو الغلاف الأخضر والأسود»، وعنوانه «تاج: قصص وقصائد». وقد وقعت عليه رشا مصادفة في مكتبة عزة، بل وجدته يناديها بحروفه النافرة. ويفيد الشرح على غلافه الأخير بأن مقالته الأولى تسرد سيرة «الشاعرة القتيلة». هذا الكتاب (المتخيل) سيكون الحافز على توطيد الصداقة بين الشخصيتين، المرأة العجوز التي تستمع والشابة التي تقرأ لها. هذه اللعبة التي أجادتها كوثراني منحت روايتها بعداً رمزياً يتمثل في جعل القراءة فعل خلاص: إنها القراءة التي تشبه السرد الشهرزادي في إحدى نواحيه. قراءة سيرة «تاج» الشاعرة القتيلة، هي التي منحت «انتظار» عزة الطويل والأليم، معنى ومغزى، ومهدت امامها سبيل الموت الهادئ جداً الذي يحل بعد أن تنتهي سيرة تاج، مع ان القراءة بدأت في لحظة النهاية المأسوية (الإعدام) التي عرفتها تاج. أضحت هذه «الشاعرة القتيلة» أشبه بالمرآة التي وجدت العجوز والشابة بعضاً من ملامحهما فيها ومقداراً من العزاء على رغم الفروق التي تبعدهما عن لاهوتية تاج السلبية. لقد وجدتا فيها صديقة مجهولة، هما اللتان تهويان القراءة بكونهما معلمتين للغة العربية، لا سيما وسط الفراغ اليومي الذي يغرقهما. وهو فراغ عاطفي وحياتي لدى رشا التي تعترف قائلة: «ها أنا في الثلاثين ولم أنجز شيئاً بعد. خُدعت في الحب وخدعت نفسي. « أما فراغ عزة فهو نفسي وروحي، فراغ في الحياة كما في الزمن (الشيخوخة)، فراغ في الزواج والأمومة، لا سيما بعدما أضحت وحيدة عقب وفاة زوجها الثاني وخطف ابنها على أحد الحواجز الطائفية والتغيب الدائم لابنها الآخر. حلت قصة تاج في الوقت الملائم لتشغل حياة الاثنتين حكائياً، وهو قد يكون الشغل الأجمل. عاشت تاج معهما وعاشتا معها طوال الأيام المحدودة (ايام سرد السيرة) التي انتهت مأسوياً أيضاً: تموت عزة ويقتل حبيب رشا في حادثة غامضة عندما يطلق عليه الرصاص. الأرملة «الثكلى» ترحل والشابة تصبح أرملة مجازاً.   السرد المزدوج اما سيرة تاج فجعلتها الروائية حكاية بامتياز، معتمدة لعبة السرد المزدوج، الواقعي والمتوهم، عبر لسان القارئة ومن خلال ما ورد في الكتاب. هذه ليست سيرة في المفهوم التقليدي، مع ان الكاتبة اوردت في هامش الرواية ثبتاً بالمراجع التي عادت اليها ومعظمها بالإنكليزية، لتكتب رواية تاج، وكان في إمكانها بسهولة كتابة سيرتها موثقة تمام التوثيق. وقد بدأت الرواية من نهايتها الأليمة، وهذا ما أثار حماسة عزة المستمعة ورشا القارئة. ولعل مشهد قتل تاج هو من المشاهد الرهيبة، فهي طلبت من الجلادين ان يخنقوها بوشاحها الحريري الأبيض وكأنها ارادت ان تموت ميتة بيضاء. لكنّ الجلادين قتلوها مرة ثانية برميهم جثتها في بئر وردمها بالحجارة ليتخلصوا من سحر عينيها. وتاج كانت امرأة جميلة، عيناها واسعتان ووجهها «لا يمكن نسيانه او تجاهل ندائه» و»شعرها الكثيف الأملس ينهمر لمعانقة صدرها». تتقاطع إذاً سيرة تاج «البطلة» الغائبة الحاضرة (أو المستحضرة) مع الحياة اليومية أو وقائع حياة الشخصيتين (عزة ورشا)، مثلما تتقاطع الأمكنة المعلنة وغير المعلنة (طهران، الكاظمية، كربلاء، بيروت وبعض أحيائها) والأزمنة (القرن التاسع عشر، «صيف المجازر»، بيروت الوقت الراهن، زمن الانتفاضات) ...ولم تعتمد كوثراني لعبة التقاطع والتقطيع هذه الا لتعيد كتابة سيرة تاج روائياً، أي بما يحتمل اليقين والشك، بخاصة انها تحاشت إيراد الأسماء والأمكنة على حقيقتها، ما زاد من حال الالتباس الجميل الذي اكتنف الرواية. لكنّ من قرأ عن «قرة العين» يدرك للفور انها هي المقصودة وإن استحالت بطلة روائية ويدرك كذلك أنّ الكتاب (الوهمي وشبه البورخيسي) الذي وجدته رشا في المكتبة يحوي الكثير من الحقائق وقد دعمته النصوص التي جلبتها رشا من «الإنترنت». ولم تتوان الكاتبة عن سرد حكايتها سرداً «متصادياً» إن أمكن التعبير، أو متوازياً في المعنى النقدي، وليس «تشتيت» عناصر الحكاية الا توكيداً لوحدتها العضوية. شخصية تاج، فريدة جداً، درامية وذات ثقل معرفي، غنية بخصالها الغريبة، بل تكاد تميل في أوج وعيها الى حال من الغرائبية، هي التي أقبلت على العلم الديني طفلة وراحت من وراء الستار تتابع دروس والدها الشيخ العالم وتصغي الى النقاشات الصعبة وتحفظ المصطلحات والمفردات والمعاني الباطنية. ومنذ ذاك الحين «عشقت فكرة الغائب الذي سيظهر». بل إنّ هذه الفكرة ما لبثت أن اضحت حلم حياتها ونواة مشروعها الفكري الداعي الى التحرر من العقائد التقليدية وإلى تخطي الإرث القديم وإلى تحرير المرأة أيضاً من ربق السلطة الجائرة، الأبوية والزوجية، الحقيقية والرمزية. وكانت تاج زُوّجت زواجاً تقليدياً في الثالثة عشرة من ابن عمها، لكنها لم تدع هذا الزواج الذي ارغمت عليه، يحد من طموحها، فانصرفت الى قراءاتها مبتعدة عن الحياة الزوجية. كانت القراءة نافذتها على المعرفة والتطور، الى ان وقعت على كتاب يسمى صاحبه «الشيخ المخالف» فكان له الأثر الكبير في شخصها وحياتها ومسارها الفكري. وهي كانت تهوى قراءة شعر حافظ الشيرازي وأشعار مجنون ليلى. وتشي القصيدة التي ترجمتها كوثراني لها عن الإنكليزية بهذا الأثر، فهي قائمة على ثنائية الحضور والغياب، ثنائية العشق الحسي والعشق الروحي، وتقول فيها: «إذا رأيتك وجهاً لوجه- سأشرح وجعي كله - نقطة نقطة - إذا تحدثنا حديث القلب للقلب - وإذا التقى وجهانا - من أجل أن ألمحك- أهيم مثل نسيم...».   أعمال غائبة غير أن أحدى مآسي هذه الشاعرة هي اتلاف معظم أعمالها الشعرية والفكرية ومنع ما تبقى منها من التداول، وقد حملت اسمها نصوص قد تكون من المنحول على غرار منحولات الصوفية. ولعل أجرأ ما قامت به هو خلعها حجابها في مؤتمر حافل بالعلماء جهاراً وبجرأة تامة قائلة على طريقة الباطنيين: «إني أنا الكلمة التي ينطق بها القائم والتي يفرّ منها نقباء الأرض ونجباؤها». وكان موقفها هذا بمثابة الحدث المدوي الذي هزّ المدينة والأوساط الدينية. وكان أفدح تهمة كيلت لها وجرتها الى السجن ثم الى الموت قتلاً بعد ما طوردت وفرت من قرية الى أخرى. يروي الكتاب الذي قرأته رشا على مسمع صديقتها العجوز طرائف كثيرة عن فترة سجنها في الطبقة العلوية من دارة رئيس الشرطة وكيف راحت تزورها سيدات المجتمع الراقي وكيف شرعت في تعليم النسوة الأميات وتحريضهن على التمرد على أوضاعهن الذليلة وعلى مواجهة التقاليد البالية. وكانت تاج امرأة حالمة وترى في نومها أشخاصاً ورموزاً، ومرة أبصرت في منام من تسميه المخلص أو «صاحب الزمان» وهو «شاب في رداء اسود وعلى رأسه عمامة خضراء». نجحت هالة كوثراني في جعل تاج، هذه المرأة التي اتهمت بالهرطقة والجنون والفسق واعتبرت «مصيبة العصر» في إيران، شخصية روائية إشكالية ومأزومة، عميقة الملامح، حية ومعاصرة، شخصية من لحم ودم على رغم طابعها التخييلي أي بصفتها شخصية يتم تخيّلها عبر فعل القراءة، شخصية رائدة في الدعوة الى التحرر النسوي العادل... وقد أجادت الروائية كثيراً في لعبة المرآة، التي أغرقت فيها الشخصيتين النسائيتين عزة ورشا، لتنسج من خلالهما صورة تاج وسيرتها، مبتعدة عن فكرها الذي يوصف بـ «المهرطق» وعن آرائها اللاهوتية الجريئة. إنها رواية الشخصيات الثلاث، النسوة الثلاث اللواتي واجهن مصائرهن: تاج قتلاً وعزة موتاً على سرير شيخوختها ورشا «ترملاً» عاطفياً باكراً. هذه رواية تقرأ بمتعة كبيرة وبألم وحزن، يقابلهما فرح خفي هو فرح الكتابة الإبداعية التي لا تخلو من الذكاء والوعي العميق.