يذكّرنا الباحث عماد يوسف في كتابه الصادر قبل أشهر تحت عنوان «تركيا... استراتيجية طموحة وسياسة مقيدة: مقاربة جيوبوليتيكية» بأنه في ضوء إعادة تعريف مكانة تركيا على الساحتين الإقليمية والدولية، لجأت حكومات حزب العدالة والتنمية منذ 2002 إلى اعتماد رؤية جديدة للدولة، بالاعتماد على الفكر الجيوبوليتيكي، تغيرت بموجبها النظرة إلى تركيا من كونها «هامشاً» أو «حاجزاً» أو «جسراً» بين الشرق والغرب، إلى دولة «مركزية» و «كبرى» و «حاسمة». أما إقليمياً، فتغيرت تصوراتها عن المناطق المحيطة بها من كونها مصدراً للتهديدات والمخاطر إلى «عمق استراتيجي» تتوافر فيه فرص كثيرة أو «هوامش» تؤثر تركيا فيها. الأزمة السورية وما تفرّع عنها من مبارزات على النفوذ والمصالح بين القوى الإقليمية والدولية، إلى جانب ما تفرّع عن هذه الأزمة من إرهاب ولاجئين، تضعنا، ربما، أمام جيوبوليتيك تركي معاكس؛ فاليوم تستنجد أنقرة بأوروبا والعكس صحيح، تؤشر إلى ذلك الصفقة الأخيرة بين الطرفين والتي عرض فيها الاتحاد الاوروبي على تركيا مساعدة بقيمة قُدّرتْ بثلاثة بلايين يورو (3.41 بليون دولار) مع احتمال تيسير إجراءات تأشيرات السفر للمواطنين الأتراك وإحياء محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في مقابل مساعدة أنقرة على وقف تدفق المهاجرين إلى اوروبا. لقد وضع التصعيد العسكري الروسي في سورية تركيا في حالة ارتباك وصدمة، وكانت موسكو على معرفة بأنّ تحركها «المفاجئ» سيثير في أنقرة تلك الصدمة المقصودة. وفي وقت مبكر من هذا التصعيد، كانت أولى الرسائل الروسية ذاك الاحتكاك بتركيا؛ لإيصال «قرصة أذن» إلى حلف «الناتو»، الذي جاء ردّه فاتراً بأن حماية تركيا من أولوياته، ولربما ما يفسّر جزءاً من هذا الفتور، إلى جانب عدم الرغبة الأوروبية في التورط في سورية، تحذير رئيس المجلس الأوروبي تركيا من أنها لن تحصل على تنازلات من الاتحاد الأوروبي، مثل تسهيلات في تأشيرات السفر إلا إذا نجحت في تقليل تدفق اللاجئين الذين يصلون إلى أوروبا. هذه الأجواء زادت من ارتباك الحكومة التركية التي تقدّر أن احتمالات اصطدامها مع روسيا تساوي صفراً في هذه الأثناء، لذا كان الإصرار التركي على قوة «الصداقة التركية - الروسية» تخفيفاً للاحتقان. الأمر لم يقف عند هذا الحدّ، فقد أتى إعلان مسؤول تركي أن أنقرة استدعت سفيري الولايات المتحدة وروسيا لتحذيرهما من تقديم أي مساعدات للقوات الكردية السورية التي تقاتل «داعش»، متزامناً، من جانب آخر، مع تقارير عن وصول آلاف الجنود الإيرانيين إلى سورية لمساعدة قوات النظام في هجوم متوقع على مناطق المعارضة في حلب بعد اشتراكهم في عمليات النظام ولحسم معركة حماة. التقارير تفيد بأنّ الطريق الذي يستخدمه سكان مدينة حلب المتجهون شمالاً إلى الحدود التركية بقي مقفلاً منذ الأربعاء الماضي. كلام واشنطن عن تسليح أميركي لمجموعات معينة من المعارضين السوريين يشير، على الأرجح، الى انعطافة جزئية «محسوبة» في الردّ على تصعيد موسكو، لكنّ اللافت للنظر أن «نوايا» واشنطن بإعلان الرغبة في تحرير الرقة من «داعش»، من خلال دعم «الجيش السوري الحر» والمقاتلين الأكراد، تتمّ عبر استبعاد تركيا من هذا الجهد الذي تقصد الولايات المتحدة من ورائه تسجيل نقاط ضد روسيا في سياق «المبارزة» القائمة بينهما، برغم كل الكلام الكثير، والذي لا يخلو من استعجال، بخصوص ترك الساحة السورية للروس. «المبارزة» ستستمر إلى أن يجيء وقت تنضج فيه التسويات والمساومات، والمؤشرات الأولية تدلّ على أنه ليس قريباً؛ لأنّ واشنطن لن تسمح لموسكو وطهران بالاستفراد بالساحة السورية وتحسين شروطهما وتقوية موقفهما بشكل يضرب «التوازنات الأميركية»؛ فتلك خسارة معنوية أميركية لن تمنحها واشنطن لغريمها الروسي على طبق من ذهب، أو من دون مقابل، حتى وإن تحقق لها عبر التفاهمات الإسرائيلية - الروسية تأمينُ مصالح حليفها الأوثق في المنطقة، إسرائيل. وصول آلاف الجنود الإيرانيين إلى سورية لمساعدة قوات النظام في هجوم وشيك متوقع على مناطق المعارضة في حلب، التي لا تبعد أكثر من خمسين كيلومتراً عن الحدود التركية، لا بدّ أن يثير مخاوف تركيا، ومن غير المحتمل أن تقف مكتوفة أمام هذه التحركات على مقربة من حدودها، وهي ستزيد من دعمها لفصائل المعارضة السورية في الشمال. كما أن الأطراف الخليجية الداعمة للمعارضة المسلحة لن تكتفي، ربما، بدعمها بصواريخ «تاو» المضادة للدروع، وقد يكون محتملاً تزويدها بصواريخ مضادة للطائرات؛ للحدّ من الخسارات التي أحدثها الطيران الروسي في صفوف المعارضة «المعتدلة». التدخل الروسي في سورية يضع روسيا على الحدود الجنوبية لتركيا، وتموضعُ آلاف المقاتلين الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين على مقربة من حدودها، وعلاقتها السيئة مع الأكراد في الداخل التركي أو في سورية يعنيان «تفاقم المشاكل» بعدما كانت تركيا قبل سنوات تنادي بنظرية «صفر مشاكل» مع جيرانها!