إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءَتْ ظُنونُه وصدّقَ ما يعتادُه من توهّمِ وعادى محبّيهِ بقوْل عُداتِه وأصبحَ في ليلٍ من الشّكّ مظلِمِ «المتنبي» عودا على قصة أبي نيّة وأبي نيتين، يبدو أن نسبة أبي نيتين بيننا أكبر، وهي في ازدياد. فقد بينت الأبحاث أن ما يقرب من نصف جميع المديرين لا يثقون بقادتهم. هذا ما وجده استطلاع (2006) شمل 450 من المديرين التنفيذيين في 30 شركة من مختلف أنحاء العالم. كما وجد بارومتر إيدلمان للثقة للعام 2009، أن ما يقرب من ثلثي الناس الذين شملهم الاستطلاع في 20 بلدا يثقون بمنظماتهم بدرجة أقل مقارنة بالعام السابق. هناك أزمة ثقة على مستوى العالم، فقد بينت الأبحاث أن الثقة بين الناس قد تدنت في العقد الأخير. والعالم لم يعد رأسيا كالسابق. ومنظمات اليوم تتميز بهيكلها الأفقي لا العمودي. ولذلك فالقدرة على التأثير على الناس من خلال التسلسل الهرمي المبني على السلطة تبدو ضعيفة للغاية. وعلى ذلك، فإن دور الثقة في القيادة هو أمر أساس وحيوي. وأن أهم وأول ما يجب على القائد تأسيسه أو تعزيزه في المنظمة هو الثقة. قد تكون لدى قائد ما رؤية بعيدة، وبصيرة نافذة، واستراتيجية صلبة، ومهارات اتصال متميزة، وفريق كفء وماهر، ولكن إذا كان الناس لا يثقون به، فإنه لن يحقق النتائج التي يصبو إليها. فالقائد الذي يبني الثقة في بيئة المنظمة يجني نتائج أفضل، وروح معنوية أعلى، ويحتفظ بخيرة الموظفين، ويخلق بيئة مشجعة على الابتكار والولاء. وفي المقابل، فإن انعدام الثقة يعزز الشكوك والإحباط، وتدني الإنتاجية، وتسرب الكفاءات من المنظمة. فالثقة تتحكم في قدرة القائد على التأثير وقدرة المنظمة على البقاء أكثر من أي شيء آخر. ويخطئ القائد عندما يفترض أن الآخرين يثقون به فقط لأنه يحتل موقع القيادة. فالثقة ليست من حزمة المزايا التي تأتي مع المنصب. إذ لا بد من السعي لكسبها، وذلك يتطلب وقتا وجهدا كبيرين. فأنت كقائد، لا يثق الناس بك إلا بمقدار ما يؤمنون بقدراتك وثبات مواقفك، ونزاهتك، والتزامك بأهدافهم. والثقة لا بد أن تكون متبادلة. فالقائد يخطئ تماما عندما يعتقد أنه يجب أن يثق الناس به دون أن يمنحهم ثقته. ومن العوامل الباعثة على الثقة هي الاستعداد للمخاطرة، والتوازن الذهني والعاطفي. فالواثقون بالناس هم أكثر توازنا وأكثر مخاطرة من غيرهم. ولا يمكن الجمع بين الثقة والتمحيص، إذ لا بد من أخذ المخاطرة عند الوثوق بالناس. فأنت إذا قمت بالتمحيص قبل إعطاء الثقة، فأنت لا تثق بالناس. والناس تثق بمن يشبهها. فالمتشابهون في القبيلة أو الدين أو المنشأ أو القيم والتوجهات هم الأكثر ثقة ببعضهم. فتجد الملتحي يثق أكثر بالملتحي. وتجد الحزبي يثق أكثر بأهل حزبه، وابن تلك المدينة يثق بأبناء مدينته أكثر. كما أن المنظمات التي تسودها قيم مشتركة ومعمقة، تجد الثقة بين أفرادها أكثر من المنظمات التي لا هدف قيمي لديها. كما أن الاشتراك في المصالح يجعل الناس يثقون ببعضهم أكثر. فالشاري قد لا يثق بالبائع لاختلاف المصلحة، ولكن الجندي يثق بزميله لأن مصلحتهما واحدة. وكلما اشتركت القيادة مع الموظفين في أهدافها، وأصبح صنع القرار مؤسسيا شفافا لا يخضع للأهواء، زادت الثقة في بيئة المنظمة. وكلما أصبح القائد ساعيا لخدمة مصالح منسوبي المنظمة لا مصلحته هو، زادت ثقة الناس به. كما أن القدرة هي معيار من معايير الثقة. فإذا كان الطرف الآخر فاقدا للأهلية، فالثقة فيه تكون مهزوزة. فالمريض عند الحاجة لإجراء عملية يسعى للطبيب الكفُء لا الطبيب الذي تربطه به صداقة مثلا. والشخص الذي يمكن التنبؤ بتصرفاته يكون أهلا للثقة أكثر من غيره. وعندما يختلف الفعل عن القول في الشخص فالناس تحتار في معرفة شخصيته وتنأى عن الوثوق به. فمن يعد بما لا يفي حتى وإن كان بنيّة سليمة، يفقد ثقة الناس به. وبما أن الثقة هي مفهوم مرتبط بالعلاقات، فإن ارتفاع مستوى التواصل بين الناس يزيد من درجة الثقة بينهم. لذلك، فالمنظمة التي يكون فيها التواصل مفتوحا وصادقا، تزداد الثقة بين أفرادها. وفي ظل غياب المعلومة، تلجأ الناس إلى الشائعات ويعم الشك وفقدان الثقة. يحكى أن طفلة صغيرة ووالدها يعبران شارعا مزدحما. وكان والدها يكتنفه الخوف، ولذلك طلب من ابنته أن تمسك يده لئلا تتعثر أثناء العبور. ولكن الطفلة ردت: لا يا أبتي، أنت أمسك بيدي. فرد الأب بدهشة: ما الفرق؟ فقالت له ابنته: هناك فرق. إذا أمسكتُ بيدك، وحدث لي شيء فقد تفلت يدي منك. ولكن إذا أمسكت أنت بيدي، فإني أعلم يقينا أنك لن تفلتها أبدا مهما حدث. في أي علاقة، فإن جوهر الثقة لا يكون في مجرد الارتباط ولكن في قوة الرابطة. لذا، أمسك بيد زميلك الذي تؤمن وتثق به بدلا من أن تتوقع منه أن يمسك بيدك.