برغم حداثة تجربتنا المحلية في التنوع الثقافي والتعددية الفكرية بصورها وتجلياتها المباشرة، إلا أننا نمتلك ــ ولا فخر ــ أكبر مخزون من التوصيفات والتصنيفات الفكرية والدينية! من حداثي وعلماني وليبرالي ويساري وملحد، ومن ملتزم وإسلاموي وسلفي وجامي وليبروإسلامي... إلى آخر تلك المفردات التي تزخر بها الحوارات والبرودكاستات والتغريدات وغيرها. تصنيفات توحي في ظاهرها بتنوع ثقافي وفكري ضارب العمق. بينما يحيل جوهرها إلى سطحية ساذجة، تجعلنا أشبه بماكينات إطلاق التصنيفات المرتجلة المعلبة، دون وعي بمرجعيات تلك التسميات أو الاتجاهات ومفاهيمها. من الصعب (أو ربما كان من السهل) تحديد البذور الأولى التي نتج عنها تقسيم المجتمع إلى فسطاطين لا ثالث لهما، يقف الأول في معسكر المحافظة الموسومة بالتشدد والانغلاق، ويقع الآخر في معسكر التجديد المتهم بالانحلال وهدم القيم! معلوم أن الاختلاف قديم قدم البشر «ولا يزالون مختلفين»، وأنه غاية من غايات وجودهم «ولذلك خلقهم»، لكن مجتمعاتنا قد عاشت عصورا مديدة دون انقسام أو تحزب، وبخاصة في الشأن الفكري والثقافي، حتى عهد قريب جدا عاد فيه المشهد الثقافي والإعلامي والاجتماعي إلى ردة جاهلية بائدة مغرقة في عداء كل مخالف ومصادرة كل مختلف! لا إشكال في الاختلاف، لكن الكارثة التي نعانيها تكمن في فكرة الصراع التي تعشعش بوعي أو دون وعي في أذهان الفئات المختلفة، وتظهر في التجاذبات الثقافية والفكرية. فكل اختلاف لدينا يعني خلافا، وكل حوار يتحول صراخا واتهاما، وكل جدل ينتج تصنيفا وتشكيكا في الانتماءات والولاءات والتوجهات! ومع تراكم الجدل وتشعب مساراته نشأ بين المعسكرين أو الفسطاطين نمط من التعاطي قائم على الاستفزاز والتحرش، إذ لا يضيع أحدهما فرصة لاستفزاز الآخر والنيل منه دون استغلالها إلى أقصى حدودها، باللمز والتعريض تارة، والتشهير والتصريح تارة أخرى، فنجد في بعض مقالات الكتاب وبرامج الإعلاميين، كما في بعض خطب الدعاة ومحاضراتهم، تعميما لممارسات فردية، وتضخيما لأخطاء غير مقصودة، وصولا إلى الاتهام والتهكم برموز المعسكر الآخر! ومن زعماء الاتجاهات المختلفة من يكرس في خطابه الخاص والعام تلك الحالة من الانقسام والخصومة، وعلى طريقة المثل القائل «ينمو في الحديقة أكثر مما يزرع البستاني»، فقد أدى تكريس هذه الفكرة بالسواد الاجتماعي الأعظم إلى تصديقها والإيمان بها والتعاطي وفق منطلقاتها الوهمية وفرضياتها المختلقة، حتى أصبحنا نعيش في مجتمع متجهم محتقن متشائم، لا يرى سلامة الثوابت ونجاة الأمة إلا في سوء الظن والاستعداد الدائم للتحرش والتحرش المضاد!.