انطلقت أمس في أنحاء أوروبا مظاهرات منددة بالتدخل الروسي في سوريا. لكن لا يمكن مقارنتها بأي حال من الأحوال بالمظاهرات التي عرفتها العواصم الأوروبية في السابق احتجاجًا على الغزو الأميركي للعراق. كانت مظاهرات خجولة، والسبب الرئيسي وراء ذلك كما يبدو هو أن فصائل اليسار الأوروبي، وخصوصًا المتطرفة التي لا تزال فاعلة في مناسبات كهذه، قاطعت هذه المظاهرات لـ«موقف آيديولوجي» لا تزال هذا الفصائل متشبثة به على الرغم من أن الحياة أثبتت أنه يقف على رأسه وليس على قدميه. في بريطانيا على سبيل المثال، كان ائتلاف «أوقفوا الحرب»، الذي كان من قادته جيرمي كوربن، زعيم حزب العمال الحالي، هو المحرك الرئيسي للمظاهرات الجماهيرية أثناء حرب العراق، واستطاع أن ينظم مظاهرة مليونية في شوارع لندن عام 2003 احتجاجًا على هذه الحرب، وكذلك فعل اليسار الألماني في برلين، وعواصم أوروبية أخرى. «أوقفوا الحرب» شعار نبيل، لكننا سنكتشف أنه ليس شعارًا عامًا ضد أي حرب بالمطلق، لأنها فعل قبيح مناقض للحياة والطبيعة الإنسانية، بل شعار مخصص موجه فقط ضد «حروب أميركا الإمبريالية». ويبدو أن الحروب الأخرى، وضمنها التدخل الروسي الدائر الآن في سوريا، لا يشملها هذا الشعار. بشار الأسد مناهض لأميركا وروسيا ضد أميركا، إذن نحن معهما. هدف مشترك يجمعنا وهو النضال ضد الإمبريالية الأميركية، إذن نحن رفاق. وليذهب ربع مليون سوري قتيل على يد النظام قبل غيره، والملايين المشردون في الداخل والخارج إلى الجحيم. في المظاهرة الأخيرة التي جرت في العاصمة البريطانية قبل نحو شهر تضامنًا مع اللاجئين السوريين، وألقى فيها جيرمي كوربن كلمة الفوز عشية انتخابه قائدًا لحزب العمال، ارتفعت الشعارات التي تدعو إلى «إيقاف قصف سوريا». وحين جادلناهم عن معنى هذا الشعار، ومن يقصف سوريا؟ كانت الإجابة: أميركا تقصفها. لا كلمة واحدة عن النظام الذي شرد هؤلاء اللاجئين. من يقصف سوريا الآن؟ أيضًا لم نسمع كلمة واحدة من اليسار الأوروبي، ولم نر متظاهرًا واحدًا في شوارع لندن أو برلين أو باريس. ليس صمتًا مريبًا، بل موقف آيديولوجي يرى، كما يرى ملالي طهران، أن أميركا هي «الشيطان الأكبر»، وأن العداء لهذا الشيطان، حتى لو لم يكن عداءً مبنيًا على أساس فكري، هو خير مبارك، وإن صدر من طغاة حاربوا شعوبهم قبل أن يحاربوا «الشيطان الأكبر»، من صدام حسين إلى بشار الأسد. ولو كان الأمر معكوسًا، أن الطائرات التي ترمي حممها الآن على الأرض السورية، هي أميركية وليست روسية لامتلأت الشوارع الأوروبية بملايين المتظاهرين. العداء الآيديولوجي الأعمى، وتقديس الفكرة المجردة الهلامية على حساب الإنسان، هي التي قادت في عصرنا إلى انكفاء اليسار، وهي التي أدت إلى اندحار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي كله في ليلة وضحاها، وهي التي قادت عندنا إلى تراجع اليسار في البلدان العربية إلى الصفوف الخلفية، بعدما كان في الطليعة منها. لا يبدو أن هناك خلاصًا لليسار سوى بالعودة إلى الفكرة الأساسية الكبرى في فكره التنويري منذ انبثاقه الكاسح: «الإنسان أثمن رأسمال»، مهما كان هذا الإنسان، وأن النظرية رمادية، بينما الحياة خضراء.