«في هذه المسرحية، تتشتت الشخصيات، تتوزع نتفاً نتفاً، تتضاعف، تتعدد، تتبخر، تتكثف، تضمحل وتبزغ من جديد. غير أن وعياً واحداً يحكمها جميعاً، وهو وعي الحالم. بالنسبة إلى هذا الأخير ما من أسرار أو غموض هناك، وما من تشرذم، ما من مبادئ، وما من شرائع وقوانين. الحالم لا يحكم ولا يبرئ... هو بالكاد ينقل «الوقائع». ولأن الحلم يكون عادة مؤلماً أكثر منه مدعاة للسرور، نجدنا هنا أمام مقدار كبير من الكآبة، ولكن أيضاً من التعاطف مع كل الكائنات الحية، وهذه الكآبة هي ما يهيمن على السرد المتأرجح في المسرحية». بهذه العبارات، تحديداً، تحدث الكاتب المسرحي والروائي السويدي أوغوست سترندبرغ ذات يوم عن واحدة من أغرب مسرحياته وأعمقها... وهي تلك المعنونة «مسرحية حلم». ولئن كان سترندبرغ كتب هذه المسرحية عام 1901، وربما انطلاقاً من إمعانه في قراءة النصوص التي راح أئمة التحليل النفسي يكتبونها حول الأحلام ومغزاها، فإن «مسرحية حلم»، لم تقدم للمرة الأولى، في استوكهولم، إلا بعد ذلك بستة أعوام، أي في عام 1907. لكنها، ومنذ ذلك الحين، لم تغب عن «ريبرتوارات» عالمية كثيرة ولو لسنة واحدة، إذ معروف أن «مسرحية حلم» هي أكثر مسرحيات سترندبرغ تقديماً... وكذلك هي مسرحيته التي يحاكيها كبار المبدعين المسرحيين وغير المسرحيين أكثر من أي عمل آخر في القرن العشرين، إذ إن كتّاباً كثراً، وفي شتى اللغات، صاغوا مسرحيات أساسية لهم على النسق نفسه الذي صاغ عليه سترندبرغ هذه المسرحية، ومن بينهم كاتبنا العربي توفيق الحكيم الذي له مسرحية ذات فصل واحد تقتفي أثر «مسرحية حلم» خطوة خطوة. * و «مسرحية حلم» هي، كما يدل عنوانها، مسرحية تتضمن حلماً. غير أن المتفرج لا يدرك هذا منذ بداية مشاهدته العمل. إذ إن البداية تكون مع «الآلهة» الهندوسية أندرا التي ترسل ذات يوم ابنتها آغنس إلى عالم الحياة الدنيا طالبة منها أن تشهد بأم عينها ما يعانيه البشر ويشكون وجوده وتفاقمه في حياتهم، ذلك أن سعي أندرا الأساس، إنما هو تحري الأسباب التي تجعل الكائنات البشرية دائمة الشكوى والشعور بالنقصان والظلم. لذا، ترسل أندرا آغنس آمرة إياها بأن تجتمع خلال جولتها الأرضية بأكبر عدد ممكن من الناس كي تستمع إليهم، ثم تعود وقد كوّنت لنفسها رأياً حول همومهم. وبالفعل تهبط آغنس (التي هي الشخصية المحورية في المسرحية) إلى الأرض لتلتقي بنحو من أربعين شخصاً، منهم من هم من البشر العاديين، ومنهم من هم من النخبة. أو على الأقل يرمزون إلى فئات أو شرائح أو حتى طبقات معينة (ومن بين هؤلاء ثمة، في شكل خاص، أربع شخصيات لعلماء متبحرين في اللاهوت والفلسفة والطب والقانون). والحال أن المتن الأساس للمسرحية يتألف من تلك اللقاءات. أما آغنس فإنها بعد جولتها المتعددة، والتي لا يخضع منطقها إلى أي مسار زمني واضح ومحدد - إذ لا ننسينّ هنا أننا في داخل حلم، كما يشير عنوان المسرحية على الأقل، إن لم تشر إلى ذلك سياقاتها حتى الآن - آغنس هذه تنهي جولتها، ولكن بعد أن تكون أيضاً اختبرت شتى أصناف المعاناة الإنسانية (كالفقر والقسوة ورتابة الحياة العائلية)، تنهي الجولة وقد وصلت إلى يقين قاطع فحواه أن الشفقة لا تجوز أبداً على هذه الكائنات البشرية. ويتطابق وقت عودتها إلى عالمها الأساس، مع يقظة من هذه الأحداث يتبين لنا أنها يقظة من حلم. * حتى وإن كان أوغوست سترندبرغ لجأ في كتابته هذه المسرحية إلى أسلوب الحلم، والذي يبدو غالباً على شاكلة «تيار الوعي» الذي لن يعرف إلا لاحقاً ويصل ذروته في أدب جيمس جويس، فمن الواضح أن هذا الأسلوب ليس سوى لعبة شكلية... طالما أن المواضيع التي تعالج هنا، لا تخرج عن إطار المواضيع الواقعية التي كثيراً ما كان سترندبرغ نفسه عالجها في مسرحيات أخرى له، مثل النزعة المادية والصراع الطبقي والصراع بين الجنسين... فالحقيقة أن كل ما هو تمعُّن في عمق المسائل المرصودة هنا على شكل حلم وجولة داخل اللاوعي الحالم، هو في حقيقته ينتمي إلى الواقع الذي كثيراً أو دائماً ما شكّل عالم سترندبرغ وَهمّه. ومع هذا، من الناحية الفنية يمكننا أن نوافق تماماً الدارسين والمؤرخين الذين رأوا في هذا العمل - أي في الأسلوب الذي به كتبت هذه المسرحية، تحديداً - تغيراً جذرياً في نمط الكتابة لدى سترندبرغ. ولقد رأى الدارسون أن تعمّد سترندبرغ ولوج كل هذا التغيير الجذري عند بدايات القرن العشرين إنما هو إشارة إلى ما كان يبتغيه ونجح فيه من إحداث تغيير يؤكد ريادته في مجال تطوير الدراما الحديثة. غير أن هذا لم يمنع سترندبرغ على أي حال، ووفق ما يؤكد هؤلاء الدارسون، من الاشتغال على نوع من الروابط التشاركية، من دون وقوع في سياق الرد المتناسق زمنياً. من هنا، الوصول إلى صيغة الحلم. حين نجد الأماكن تذوب في بعضها بعضاً، والزمن يتحرك إلى الأمام وإلى الوراء... إلى درجة أن ثمة مبنى صغيراً لإيواء الحيوانات الأليفة في حديقة، ينمو وكأنه نبتة... حتى يصل الأمر به في نهاية المسرحية إلى أن يحترق كاشفاً عن جدار مملوء بالوجوه المتألمة، قبل أن تبرعم على سطحه شجرة خزامى عملاقة. والحقيقة أن هذا كله الذي قد يبدو لنا اليوم جزءاً بدهياً من تطور لغة المسرح بين جملة تطورات أصابت الفنون جميعاً، كما نعرف - ويشكل جزءاً أساساً من اللغة المعتادة للمسرح، كان في ذلك الحين يعتبر ثورة في عالم المسرح، يحتاج تقنيات ديكور وتمثيل لا عهد للمسرح بها. ولعل هذا الواقع هو الذي يفسر لنا كيف أن تقديم «مسرحية حلم» احتاج ست سنوات قبل أن يتجسد ليفاجئ الجمهور بما لم يكن معتاداً عليه. * هنا، قد يكون من الضروري، لفهم بعض خلفيات كتابة هذه المسرحية، أن نذكر أن سترندبرغ، كما يقول مؤرخو سيرته، كتبها بعد فترة أصيب خلالها بما يقرب من الانهيار العصبي، حيث يصفه هؤلاء بأنه خلال تلك الفترة كان يشعر بمقدار كبير من الانزعاج الرهابي، إلى درجة أنه كان لا يفتأ يقول إن ثمة حوله، ليلاً ونهاراً، ساحرات لا يتوقفن عن محاولة الإجهاز عليه. ومهما يكن من أمر، فإنه كان معروفاً عن سترندبرغ أنه منذ البداية كان يعتبر نفسه شهيداً وضحية دائمة لاضطهاد النساء ومطاردتهن إياه، ما أثّر كثيراً خلال فترات متفرقة من حياته على علاقاته مع الجنس الآخر، وطبع كتاباته في تلك الفترات. لكنه وكما يقول لنا في مذكراته، شفي من هذا كله، كما شفي من أزمته العقلية خلال السنوات الأخيرة من حياته و... ربما يفضل حماته التي عرفت كيف تشفيه. * أوغوست سترندبرغ (الذي ولد عام 1849 في استوكهولم التي سيموت فيها عام 1912)، كان من كبار الكتّاب الأوروبيين الذين مهدوا لحداثة القرن العشرين وتأثيراته في مجال الكتابة المسرحية كما في مجال رسم الشخصيات، تركت ظلها كثيفاً على بعض أبرز كتّاب ومبدعي القرن العشرين، من انغمار برغمان وآرثر ميلر، إلى وودي آلن. وهو كتب المسرحية والرواية والقصة القصيرة، كما أنه خاض فن الرسم محققاً لوحات لا بأس بها، وإن كانت غير قادرة على أن تجعل من اسمه اسماً عالمياً كبيراً في هذا النمط من الإبداع. في المقابل تكفيه مسرحياته (ومنها «الشبح» و «الآنسة جوليا» و «رقصة الموت») لجعله في مقدم كتّاب المسرح في العصور الحديثة، كما تكفيه قصصه ورواياته ثم كتب سيرته الذاتية ومنها سيرة في 4 مجلدات، وكتاب لاحق عنوانه «الجحيم» (يعتبر رواية وسيرة ذاتية في الوقت نفسه)، لجعله يُصنَّف واحداً من كبار الكتّاب على الإطلاق. alariss@alhayat.com