من هناك .. يأتي محملاً بالزمن الجميل، في صوته رائحة البيوت الطينية والطيبة والبياض وفي قلبه ذاك حمل الكثيرين، من حي الفاضل أتى ليصنع الضحك، وعبر ساحة «القضيبية» القديمة في البحرين نسج أول خيوط شعره «لابسه دفه» .. عيناه ترصدان كل شيء، وروحه تلتقط التفاصيل والقصص والأناس الذين كانوا ولم يبق منهم سوى الرائحة، التقيته خلف الأضواء يحكي ويقول .. والناس حوله تعيش «سوالف العالم القديم»، قال لهم (تذكرين .. يوم أن وقفت تحت الدريشة .. وأنتي من بين الدريشة تبصبصين .. أنا من يومها على بيتكم أدور .. أحسد الطالع من بابكم والي يزور .. وش كثر خليت أخوك يلعب معاي .. حتى أنه يوم سألني .. أنت ليش رايح وجاي .. وهو مايدري يقول. تبي مين؟ تذكرين ..) أضحك مع شعره، أحسه في القلب ينفض رتابة الوجع، ويعيد تلك الصور الحية التي فيها ظل لحياة كم كانت عفوية وكريمة .. أمد يدي عاليا .. أقول له « يارفيع .. أترك الباب موارباً لندخل إليك، أنت لاتشبع من تزين الحكايات ..أين أنت الآن .. قل لنا شعرا جديداً، يطلق من القلب تنهيدة رجلا عاش طويلا ليقول (أحنا وين واليوم من هذا إلي راح .. ليش كبرنا .. صرنا مانعرف بعضنا .. كانت الأيام تركض واحنا. نركض .. ليش وقفنا .. اسألي قلبك عساه في يوم يلين .. تذكرين). من عمق الذاكرة .. يأتي « الشاعر البحريني «عبدالرحمن الرفيع» ليفتح قلبه على المكشوف .. في وجهه طول التجربة، وفي صوته ذاك الذي كان مفتاحاً لرائحة الخبز الشعبي والقريب من الناس مازال يحمل كل عمره، يأتي هنا لقول « لم أهرم بعد .. فبرغم شوارع النسيان التي أخذت معها كل جيران حي الفاضل مازلت أستنشق الماضي وازين فيه عمري الماضي .. اسأله عن الطريق الذي مشى فيه، فيقول لي « بالصمت مشيت فيه .. ولم أفكر يوما إلا أن أكون مسالما .. فأنا مازلت ذاك الرجل الطيب، يقف، يتأمل، تسطو عليه الذكريات المؤلمة .. تطفو روحه فوق الدموع، ينسحب إلى أعمق نقطة بالداخل ليعود ينظر إلي ويهمس « كلما قلت انتهت الأحلام يراودني منها شيئا جديد .. والأيام كلها لن تعوضني عن صديقي «أبا سهيل» الذي غادر وبقي بقلبي. عبدالرحمن الرفيع .. هنا لايناولنا الشعر الشعبي الممزوج بفكاهة روحه وخلقه الكبير .. لكنه يعترف ويبوح ويصر على أن هناك دائما شيئا ما يستحق أن يكمل الحياة من أجله ليقوله للناس .. وبأنه عبر «المكشوف» سيودع من رحل وسيحتفظ بالأناس الذين مازالوا موجودين في حياته .. ولكنه بعد كل ذلك يعد بأنه يدخل «عزلته الروحية» ليكتب هذه المرة شيئا مختلفا .. وقصيدة «الحلم» التي لن ينساها الناس أبدا حتى حينما يغادر الحياة هذه بالموت. ولكنه بعد كل ذلك البوح يمسك القلم يكتب لي «لم أندم على قصائد مزقتها في الماضي .. وستبقى المرأة السلوان الأجمل في حياة الرجل». بحر الأحلام * نعيش الحياة بكل ذلك القدر من العمر الذي يقرض بنا الأيام والسنوات ورغم التيه والطريق الطويل المشمس نظل أحياء بتجاربنا المتسعة، بحكاية ألم، ومقعد كم مر عليه من العابرين .. لكنه لم يفرغ من الحلم ولم ينقص منه شيء .. بعد تجربتك الطويلة في الحياة .. أكبرت على الحلم؟ أم أن الحلم مازال يزورك في اليقظة ليرميك بالنجوم ثم يرحل؟ ماذا بقي من أحلامك؟ - بقي الكثير لأن الأحلام تتوالد مثل زبد البحر لا ينتهي كالقصائد والشعر، حتى أغص بها وكل ما قلت انتهت راودني غيرها ..لأن شيطانها الذي يولدها لا يهدأ ولا يستقر وكنت أحلم بإعداد مكتبة تشتمل على مختلف الشعراء والأدباء ولكن ذلك يستعصي وينبو عني كلما داريته استعصى على فهمي. وجع الكلمة * الكتابة هي ولادة من حيث حياة متعددة الأشكال، تمنحنا قدرة هائلة على أن لا نهرم ونخلق أطفالا من جديد في وقت واحد .. أنها تعزلنا ثم تطلق أيدينا للفضاء .. أي حياة منحتك إياها الكتابة حتى تخلق من جديد؟ أشعرت - يوما - بأن الحروف زادت من وحدتك ومنحتك اشتهاء للوجع ومفهوم للحزن أعمق؟ - الكتابة وجع لا طبيب ولا شفاء له، يظل ينخر كالسوس في الشراين يفتك في الروح لا وقاية منه ولا فكاك منه لذا فإن الكتابة هي ولادة متعسرة ذات أوجه مختلفة. الكتابة وجع حلو المذاق ومرير لا أمر منه وهيهات الشفاء منه. كانت في البداية هي البلسم الشافي ولكنها في النهاية انقلبت صبرا مريرا. قضت على الأخضر واليابس في روحنا والروح منها بلقع ويباب فلا فرار منها. ضياء البوح * كتبت (في آخر الليل البهيم، إذا أصاخ الساهرون، يتكلم الصمت البعيد، ويصمت المتكلمون) .. حينما يأتيك الليل .. بماذا يأتيك في يديه .. بوح أم كلام؟ وبما تعده حينما يدر ظهره ليرحل عنك؟ - لقد اسلهمت الليل السرمدي فلم يبح إلا بالنزر القليل، وهيهات في الليل جدوى فيه إلا جنون الظلام وهيهات أن يجود الليل ببصيص من الضياء. ضياع الفريج * كلما أدخل قريتي أحس بسنوات الطفولة تندفع بقلبي، تسلمني للحنين والمكان ثم تمضي .. وماذا عن "فريج الفاضل" ماالذي علقته بذاكرتك هناك؟ أمازلت تلتقي بالطفل "عبدالرحمن الرفيع" كلما زرت الفريج؟ أمازال يقف عند باب بيتك القديم؟ - إن حي الفاضل يسكنه غير أهله حاليا وأهله تشتتوا من زمن بعيد فلم يعد شيء من ذلك الصدى يتردد في أنحائه المكفهرة. والبعض في شوارع النسيان. ولكن مازلت أستنشق رائحة الماضي فيه لأعطر به القادم من عمري. حبيبة الإلهام * كتب إبراهيم الكوني (ماأشقى من يهب قلبا هذه الأيام! ما أشقى من لايملك سوى قلبه هذه الأيام) .. أتحسن استرجاع قلبك بعد أن تهبه لمن لايحسن الاحتفاظ به جيدا؟ كيف تتعامل مع الهبات العاطفية؟ - وهبت قلبي لزوجتي التي أعتبرها شرارة كل إلهاماتي وحبيبة عمري بالأمس واليوم والغد .. .. وأقول لها: أنهمر كغيمة ماطرة في عينيك وأَسقط أَسقط أَسقط أَسقط لأعلاكي فقط .. ربما أتلون بلون سماء روحك وأَسبح في خلاياها وأنتشل من صدرك الآه كي أغرق من جديد .. آه ياغالية محبتي لك لن تنتهي كلامي عنك لن يكتمل وهذا الفجر الذي لا يرحل ينتظر المجئ أيضا يالي هذه اللهفة التي لا تهدأ صمود البكاء * نعيش الحياة ونحن ننتظر شيئا ما، حدث كبير يهزنا ونظن بأن التغير هو مهمة الأحداث الكبيرة ولكننا نفاجئ بأن الأشياء الصغيرة تملك القدرة على تغييرنا وتحويل مسار الطريق .. وماذا عن أشيائك الصغيرة. أيا منها غير حياتك؟ وماهو الحدث الحياتي الذي أبكاك يوما؟ - لم أبكي حين مات والدي، كنت أدعي التماسك من أجل إخوتي وعائلتي، ناقشا أحاسيسي على مر السطور. ولكن عندما رحل الدكتور غازي القصيبي لم أستطع التماسك .. لم أخرج من غرفتي لثلاثة أيام .. هذا الحدث المفجع لن تستطيع الأيام أن تعوضني عنه. المرأة الإلهام * كتبت (غمض عيونك. تصور. بلده مافيها بنات .. الشواطئ. خاليات. الشوارع خاليات. المجالس خاليات. فتح عيونك وقل لي مثل شنهو هالحياة .. وشكثر ثم شكثر ثم شكثر .. لولا البنات. شكثر كانت. كريهة هالحياة) .. حينما تغمض عينيك لترسم امرأة الحلم بداخلك .. كيف تتصورها وترسمها؟ أيشبهن بنات الحاضر بنات ماضيك؟ وهل حقا بأن المرأة في زمن " أول " كانت غير؟ - هذه القصيدة المحبوبة من الجميع لها أبعاد كثيرة ولكوني أحترم المرأة في كل زمان ومكان وتظل المرأة هي السلوان الذي يبحث عنه الرجل، وتظل المرأة هي الفردوس الدائم الذي ينشده الفنان والملهم. تعب الطريق * نركض خلف مانتعلق به في الحياة. أعيننا على نقطة الوصول وأجسادنا على ذاك الطريق الطويل .. وأصعب أنواع الركض حينما يكون في الاتجاه المعاكس للآخرين ..! أمشيت - يوما - في الاتجاه المعاكس من أجل حلم شاكسك فتعلقت به؟ أتحسن تغيير المسارات في الحياة أم أنك تفضل أن تكون دائما " مسالما " في اختياراتك؟ - مازلت مسالما ولكن ما يشغلني هذه الأيام هموم الناس، نجابه بالصمت يا ليتنا نجد جوابا كلما مشينا في طريق خيل إلينا أننا سنجده ولكن الخيبة هي التي نجابه بها في نهاية المشوار. وأنا أسير كما يسير الناس ولا أحاول السير في الطريق المعاكس حتى لا أتعب. العبث المتداخل * كتبت (والله مينون إلي يأخذله مره .. يقعد يشاهدها طول عمره كأنها منظرة .. روح تزوج بس على نفسك تشهد. قول على الدنيا السلام. حد يجيس الكهربة. حد يربي عقربه. حد يطيح في حفرة وعيونه تمام). الشعر الشعبي هو الخبز الساخن .. من أين لك بكل ذلك الخبز الساخن الذي لانشبع من التهامه والضحك بسببه؟ وماسر التآمر الجميل الذي بين صوتك وبين الشعر الشعبي والذي يأتي بلغة الشارع كلها إلينا؟ - في بعض الأحيان ندع القلم يعبث بنا ونظن أننا نعبث به. أحلام الصاحي * غنى عبد الرب إدريس (ليلة .. لو باقي ليلة في عمري أبيه الليلة. واسهر في ليل عيونك .. وهي ليلة عمر .. أحلم، أحلم بك دايم، جنبي وأنا صاحي ونايم، يالي أيامي بدونك. ماهي من العمر). أعشت يوما ليلة حلمت فيها بحب تراه دائما وأنت "صاحي ونايم"؟ أيمكن أن تكون هناك أيام ليست من العمر لأنها تخلو من حبيب غادر ومعه القلب والروح؟ - ماذا أقول حيث يقف القلم عاجزا عن التعبير وأنا كالبشر أحلم وأنا صاح وأحلم وأنا نائم. موتى الحياة * الموتى الحقيقيون ليسوا أولئك الذين نتركهم تحت التراب، الموتى من ندفنهم في الذاكرة بعد أن يموتوا بداخل القلب .. كم ميت بداخل قلبك مازلت تشم رائحة جثته بذاكرتك؟ أيمكن لمن مات بقلوبنا أن يستيقظ - يوما - ليقول " أنا موجود لم أمت "؟ - هو زمن النسيان. الحياة تفرض إيقاعها، نحن بالكاد نتذكر أحياءنا، فكيف سنذكر موتانا؟! كريم هو الله، الموت نهاية كل شيء وبداية كل شيء، وربما صار لزاما أن نحدد بدقة أكثر، هل الموتى هم فقط الموتى، أم الأحياء أيضا صاروا موتى؟ نحاول أن نحي ذكراهم في عقولنا وقلوبنا. الحب الأبدي * حينما تتجول في شوارع البحرين .. ما الذي تشمه في أرصفتها وبيوتها القديمة وحارتها المتشعبة؟ من الذي فيكما تغير؟ أنت أم البحرين؟ - لا أنا تغيرت والبحرين تغيرت إلا للأجود وللأحسن والأفضل لأنها في تطور مستمر ومواكبة كل الأحداث ونحن اثنان متعلقان بحبنا للآخر. البحرين هي أمي وحبيبتي وملهمتي التي لا أملها وتبقى إلى الأبد الحب الدائم الذي يسري في عروقي. رفيق الدرب * الرفقاء موجودون في حياتنا في مكان ما، نتواصل معهم ونسمعهم حتى إن لم نلتقيهم بالأجساد .. لديك في السعودية " رفيق روح " كنت واحداً من أبطال شقة الحرية التي كان يملكها .. فماذا بقي من ذاك الرفيق؟ أمازلت تلتقيه؟ - رفيق عمري وحياتي ودربي أبو سهيل وأنا متعلق به إلى آخر نفس في عمري وأحلم به وأنا صاح وأنا نائم من رابع المستحيلات أن أنساه فهو في عقلي وقلبي وذاكرتي ويسري في عروقي. القلب المفتوح * الطيبون وحدهم من يرتكبون ذات الحماقات تجاه أنفسهم، إنهم يفعلون ذلك لأنهم بقلوب مفتوحة وأيدٍ ممتدة .. أتملك قلبا " طيبا " كلما قبضت عليه تفلت منك هاربا لمن خذلوه؟ أيمكن " للطيب " أن يتغير يوما؟ - إنني أملك قلبا طيبا محبا للخير وللجميع بدون استثناء. قصيدة الخلود * ماالذي يشغلك هذه الأيام وترغب في أن تبوح به هنا؟ وكيف هو عبدالرحمن الرفيع بعد طول هذه التجربة؟ أمازال يملك القدرة على الضحك والفكاهة؟ - هذه سجية لن تمحوها الأيام وستبقى إلى آخر الأيام والزمان. تشغلني هذه الأيام قصيده من روائع القصائد لن ينساها الناس من بعدي. ندم لا يأتي * ماهو السر الذي لم تقله يوما لأحد؟ - قصائد مزقتها ولم أأسف عليها.