في الوقت الذي يقترب فيه الاقتصاد الأمريكي من الخروج من أزمته الاقتصادية التي عصفت به أواخر عام 2008، يبدو الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم وكأن أزمته تستفحل يوما بعد آخر. فآخر البيانات الرسمية تشير إلى أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الثالث من هذا العام لم يتجاوز 6.9 في المائة، ليكون بذلك أدنى معدل نمو في الصين منذ عام 2009. وعلى الرغم من أن المعدل المحقق أعلى من توقعات الاقتصاديين البالغة 6.8 في المائة، إلا أنه أقل من معدل النمو الرسمي المستهدف المقدر بـ 7 في المائة. وقد تركت أنباء انخفاض معدل النمو الصيني عن المعدل المستهدف آثارا سلبية في كل من البورصة الصينية والبورصات الآسيوية ومؤشر فوتسي 100 لبورصة لندن. فقد أغلقت بورصة شنغهاي على خسارة بمقدار 0.1 في المائة لتصل إلى 3.386.70 نقطة، وطالت الخسارة بورصة هونج كونج التي تراجعت بـ 0.9 في المائة وأغلقت على 18.131.23. ونالت الخسارة من بورصة طوكيو أكبر البورصات الآسيوية، إذ تراجع مؤشر نيكي بـ 0.6 في المائة ليصل إلى 18.177.43، أما مؤشر كوسبي لبورصة كوريا الجنوبية فقد سار أيضا على نفس منوال باقي البورصات الآسيوية، متعرضا للخسارة وأغلق على 2.030.27 نقطة. أما بالنسبة إلى بورصة أستراليا فإنها وإن لم تحقق أي خسائر، فشلت أيضا في تحقيق أرباح، إلا أن أغلب التوقعات تشير إلى أنها قد تمنى بخسائر ملحوظة خلال الأيام القليلة المقبلة نظرا للعلاقة الوثيقة بين الاقتصادين الصيني والأسترالي. فالصين تعد أكبر سوق للصادرات الأسترالية من المواد الخام وتحديدا المعادن. أما مؤشر بورصة لندن فوتسي 100 فإنه سريعا ما فقد المكاسب التي حققها عند الافتتاح، وكانت شركات المعادن أحد أبرز المتأثرين بتراجع معدل النمو الصيني. فشركة أنجلو أمريكان خسرت 4.87 في المائة من قيمة أسهمها لتكون بذلك أكبر الخاسرين في بورصة لندن يليها شركة جلينكور للمعادن وفقدت 3.28 في المائة من قيمة أسهمها، بينما احتل بنك باركليز المرتبة الثالثة بين المتراجعين في بورصة لندن، وعلى الرغم من تحقيقه مكاسب عند الافتتاح بلغت 1.6 في المائة نتيجة التقارير التي أشارت إلى نجاح إدارته في خفض تكاليف التشغيل، فإن أنباء تراجع الاقتصاد الصيني كانت كفيلة بانخفاض أسهم البنك بنحو 0.66 في المائة. لكن على خلاف البورصات الآسيوية وبورصة لندن فإن البورصات الأوروبية كانت في وضع أفضل. إذا ارتفع مؤشر AEX لبورصة أمستردام بنحو 0.75 في المائة وفي بلجيكا تحسنت البورصة بنحو 0.67 في المائة، أما في ألمانيا فإن كافة مؤشرات بورصة فرانكفورت حققت ارتفاعا، وبالمثل في باريس وزيورخ. والتر بارنت المحلل الاقتصادي والمالي في بورصة لندن يفسر لـ "الاقتصادية" الأداء المتباين لبورصة لندن مقارنة بالبورصات الأوروبية فيما يتعلق بمعدل النمو الصيني قائلا "بالنسبة إلى مؤشر فوتسي 100، فإن التراجع يعود إلى عاملين الأول أن رئيس الوزراء الصيني سيبدأ زيارة لبريطانيا هي الأولى من نوعها منذ عقد من الزمان، واستبق الزيارة حديث عن "عهد ذهبي" في العلاقات الثنائية بين البلدين، بما يعنيه ذلك من توقيع اتفاقيات بالمليارات، آخذا في الاعتبار أن وزير المالية جورج أوزبورن قام بزيارة بكين أخيرا لتعزيز العلاقات المالية والاقتصادية بين الجانبين، لكن أنباء تراجع معدل النمو الصيني تطرح الآن شكوكا حول قدرة الصين على تلبية التفاؤل السائد في بريطانيا بعلاقات اقتصادية "ذهبية" بين الطرفين، العامل الثاني في تراجع بورصة لندن هو شركات المعادن، فالصين تعد المستهلك الأكبر في سوق المعادن في العالم، وتراجع معدل النمو يعني انخفاض الطلب الصناعي على المعادن في الصين"، ويستدرك قائلا "بالنسبة إلى الأسواق الأوروبية وتحديدا ألمانيا أكبر مصدر أوروبي للصين سواء في مجال السيارات أو السلع الهندسية والصناعية، فإن أنباء تحقيق الصين معدل نمو 6.9 في المائة وعلى الرغم من أنه أقل من المستهدف حكوميا، لكنه يظل أفضل من التكهنات التي كانت تشير إلى معدلات أكثر انخفاضا من ذلك". ومع هذا فإن تحليل تفاصيل النمو الصيني قد تخفف نسبيا من حدة السلبية المرتبطة بتراجع معدل النمو. فالحكومة الصينية بصدد عملية تغيير هيكلي شامل للاقتصاد الوطني، وتحويله من اقتصاد قائم على التصدير للخارج، إلى اقتصاد قائم على تعزيز الطلب الداخلي وتحديدا قطاع الخدمات. ولـ "الاقتصادية" يعلق الدكتور أندروا ماك أدر المختص في الاقتصادات الآسيوية قائلا "قطاع الخدمات نما بنحو 8.4 في المائة خلال الربع الثالث من هذا العام، القطاع الصناعي في المقابل تراجع بنحو 0.3 في المائة وهذا أدنى معدل منذ ثماني سنوات، وهذا يشير إلى أن عملية إعادة الهيكلة تؤتي ثمارها لكن بتكلفة اقتصادية مرتفعة". ومع هذا فإن بعض المنتقدين أداء الاقتصاد الصيني، يشككون في مصداقية الأرقام التي تعلنها الحكومة الصينية، سواء تعلق الأمر بمعدل النمو أو تفاصيل النمو ذاتها. الدكتورة سوزان مار أستاذة الاقتصادات الناشئة في جامعة أكسفورد ولديها عديد من الدراسات النقدية للاقتصاد الصيني، تشير إلى أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لا يعكس حقيقة الاقتصاد الصيني، وأن هناك عديدا من المؤشرات الاقتصادية الأخرى تكشف أن الاقتصاد الصيني مليء بالثغرات والنواقص. ولـ "الاقتصادية" تعلق قائلة "علينا أن نتذكر أولا أن عديدا من كبار الاقتصاديين الصينيين غير الحكوميين، اعتبروا أن ما أعلنته بكين خلال الربع الثاني من هذا العام، بأنها حققت معدل نمو اقتصادي بلغ 7 في المائة محض دعاية، وإنه لو استخدمت المعايير الإحصائية التي تستخدم في بريطانيا على سبيل المثال فإن النسبة لن تزيد على 4 في المائة". وتستدرك قائلة "بتحليل تفاصيل النمو الذي حققته الصين أخيرا لا تبدو الصورة منطقية، فالبيانات تقول معدل النمو الصناعي 5.7 في المائة الأقل منذ عام 2008، معدل نمو قطاع الخدمات 8.4 في المائة مقارنة بـ 6 في المائة خلال الربع الثاني، وتلك قفزة كبيرة لكن على أي حال فإن البيانات تشير إلى أن معدل النمو في قطاع تجارة التجزئة 10.9 في المائة، وهذا لا يمكن أن يكون منطقيا في ظل خسارة البورصة نحو ثلاثة تريليونات دولار خلال أيام، نتيجة تغير سعر اليوان الصيني، فكيف يمكن للملايين من أبناء الطبقة المتوسطة أن يخسروا جل ثروتهم في البورصة ومع ذلك يزيد الطلب على السلع". ولا تبدو الدكتورة سوزان وحيدة في شكوكها حول حقيقة ودقة الأرقام التي تصدرها السلطات الصينية بشأن معدلات النمو. الاقتصاديون الحكوميون في الصين مدعومين من البنك الدولي يضعون الاقتصاد الصيني باعتباره أكبر اقتصاد في العالم، وتبلغ مساهمته نحو 16.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مقارنة بالولايات المتحدة التي تسهم بـ 16 في المائة فقط، لكن المعيار الذي يستخدمه البنك الدولي يعتمد على القوى الشرائية دون أخذ سعر الصرف في الحسبان، لكن الصورة تختلف وتصبح الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم إذا ما تم احتساب سعر الصرف عند تقدير الناتج المحلي الإجمالي. لكن حتى مع القبول بفرضية أن الحكومة الصينية لا تقدم إلى المجتمع الدولي أرقاما دقيقة، تعكس معدل النمو الواقعي الذي تم إنجازه، فإنه لا يمكن إنكار أن الاقتصاد الصيني يعد ضمن قوى الجذب الرئيسية للاقتصاد العالمي، وأن تراجع معدل النمو في بكين سيؤثر حتما في أسواق النفط والمعادن وعديد من السلع الأولية في العالم، وأن هذا التراجع يعزز المخاوف الدولية بأن الاقتصاد العالمي لم يشف بعد من أزمته، وأنه لا يزال في حاجة إلى مزيد من الوقت للتعافي التام.