يجري وصفهم بأنهم جيل ما بعد «اتفاق أوسلو»، أعني الشابات والشبان الفلسطينيين الذين تسلحوا ليس فقط بالحجارة والسكاكين بل بكاميرات جوالاتهم أيضا هذه المرة. فالانتفاضة الثالثة، كما بات يطلق عليها، يجري توثيقها بالصوت والصورة. والصورة هنا سلاح أراد المحتجون الفلسطينيون استخدامه لكشف الانتهاكات الإسرائيلية من قبل جنود أو مستوطنين وللتعبئة والتحريض أيضا. إنها محاولة فلسطينية للاستثمار في الصورة، سواء أكانت عبر جوال أو عبر كاميرات مراقبة وضعتها إسرائيل لتضبط حركة الفلسطينيين، فباتت أداة توثيق لما يجري. وهذا الحال جعل إسرائيل تعمد إلى مصادرة كثير من كاميرات المراقبة، كما دفعها لأن تطلب رسميا من «يوتيوب» و«فيسبوك» إزالة الفيديوهات التي تظهر ارتكابات جنود ومستوطنين بحق الفلسطينيين. في الضفة هبة شعبية استقطبت الانتباه، وضاعفت مواقع التواصل الاجتماعي من حجم انتشار الغضب الشعبي الفلسطيني ومن حجم التحرك الاحتجاجي. وفي المقابل أيضا زاد زخم موجة الكراهية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والعرب؛ إذ يشهد المجتمع الإسرائيلي ارتفاعا حادا في التصريحات المعادية للعرب، وفي عدد الصفحات الفيسبوكية التي تعكس وجهات نظر المستوطنين واليمين الإسرائيلي.. هذه المرة هي حرب صور. ينشر الفلسطينيون صورًا لضرب فتى جريح والاعتداء عليه وإهانته بكلام عنصري من قبل إسرائيليين، فينشر الإسرائيليون صور طعن ودهس مستوطنين. والحماسة للصور في الحراك الفلسطيني تظهر تدرجا سريعا، فالصور أظهرت بداية شبانا وشابات تعلو وجوههم الابتسامة وهم يعتقلون خلال المظاهرات، فكانت ابتساماتهم بمثابة تحد وإصرار على المجابهة. طالعتنا أيضا صور شبان يلتقطون سيلفي وهم يرشقون الحجارة أو شاب يرقص فيما الأمن الإسرائيلي على مقربة منه.. ثم أتت صور وفيديوهات لممارسات القوات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، خصوصا تلك التي ضمت اعتداءات على أطفال فزادت من اشتعال الشارع الفلسطيني المحبط والغاضب جراء انسداد أفق الحل. أيضا نقلت لنا الصور عمليات الطعن والدهس التي يقوم بها فلسطينيون والتي تستخدم لتثير حماسة في الشارع. ويعبر فلسطينيون في تصريحات لهم وفي صفحاتهم الاجتماعية عن رغبة في تغيير صورتهم، وعن حاجة لإظهار مشاهد مشاركتهم في غضبهم، سواء أكان عبر مظاهرات سلمية أو عبر عمليات طعن ودهس كما يفعل البعض منهم. ويحاول الفلسطينيون أن يمتلكوا صورتهم هذه المرة، لكن امتلاك هذه الصورة سواء صورة المبتسم أو الراقص أو ملتقط السيلفي أو الفتاة الملثمة ترد بالحجارة لم يعد الصورة الطاغية كما ظهر في الأيام الأولى من غضب الشارع الفلسطيني في وثبته الأخيرة. لقد تراجعت هذه الصور لحساب صور ظهر فيها الفلسطينيون بصفتهم ضحايا وبصفتهم «جناة» أيضا، أعني صور الدهس والطعن التي تجري مشاركتها على نحو واسع والتهليل لها أيضا. طبعا في مقياس الكم ومقياس التاريخ والوقائع لا يزال الفلسطينيون هم الطرف الضحية والأضعف، وهذا ما تظهره أرقام القتلى والجرحى والمعتقلين في الحراك الأخير. فالسيطرة إذن لا تزال إسرائيلية لكن من المفيد فهم الغضبة الفلسطينية الأخيرة التي تبدو متفلتة من الأحزاب، ويبدو فيها عنصر الشباب وخصوصا الفتيات عنصرا بارزا، ومحاولة ثني محاولات أخذها نحو مسارات عنفية لن تفيد الفلسطينيين. نعم أتى هذا الحراك الاحتجاجي من رحم يأس فلسطيني مزمن، ومن تقويض إسرائيلي لكل خيارات التسوية مع تصاعد الاستيطان والضغط الأمني. لكن ما هو ضاغط أكثر على الفلسطينيين الآن هو تراجع الاهتمام العربي والعالمي بالقضية الفلسطينية مما يعطي ضوءا أخضر لإسرائيل لممارسة بطشها. هذا الواقع يجب أن يدفع بالفلسطينيين إلى التفكير بشأن عمليات الدهس والطعن بالسكاكين التي تكاد تطغى على المشهد الاحتجاجي الفلسطيني الأخير، وتجعله مشهدا قاتما آخر. من سيتألم أكثر من تلك العمليات، هل هم الإسرائيليون أم الفلسطينيون؟ لربما وعن حق سئم الفلسطينيون من صورهم بوصفهم ضحايا، وهم حتما يتطلعون لأن يظهروا بوصفهم مبادرين، لكن صور الطعن والدهس لا تعني أن ما يرتكب هو مقاومة بل هو فعل قتل أقرب إلى الهزيمة والتسليم. إنه المنطق الذي اعتمدته إسرائيل نفسها.