تكاد تغيب أي جدارة لأي طرف في الحديث باسم العذاب الفلسطيني. انتفاضة الأرض المحتلة الجديدة أقرب إلى صرخة يأس جماعية من أي أمل وبديل وأي سلطة وجماعة. عفوية الانتفاضة وثيقة إدانة لكل المتنازعين بغير قضية على الساحة الفلسطينية. هذه حقيقة لا يصح إنكارها أو الادعاء بعكسها. الطعن بالسكاكين وثيقة إدانة أخرى لعالم ينظر بغير اكتراث لمحنة شعب يتعرض لأبشع تمييز عنصري في التاريخ الحديث قضيته تداس بالأقدام الغليظة وأراضيه تسلب قطعة بعد أخرى ومواطنوه يتعرضون للموت حرقاً وقتلاً على يد جماعات المستوطنين المدعومة من قوات الأمن الإسرائيلية. لماذا يطعن فلسطيني عادي أي إسرائيلي يجده أمامه وهو يعرف بأنه سوف يموت في اللحظة التالية؟ لأنه لم يعد للحياة معنى وهو يرى إنسانيته تهدر بقسوة ومقدساته تنتهك على نحو يصعب تحمله. انتفاضة السكاكين احتجاج مزدوج على احتلال يزدري الوجود الفلسطيني وتنظيمات فقدت صلاحيتها في الحديث باسم قضيتهم. الإعدامات الميدانية برصاص جيش الاحتلال لفلسطينيين بمجرد شيء من الشك في أنهم قد يطعنون إسرائيلياً تنطوي على أحد تفسيرين. الأول: إن هوس الخوف استبد ب الإسرائيليين إلى حد إطلاق الرصاص على مارة لمجرد أنهم فلسطينيون. وكراهية كل ما هو إسرائيلي قابله خوف من كل ما هو فلسطيني. في هستيريا الخوف تعالت حملات إسرائيلية تحرض على طعن الفلسطينيين بالسكاكين وإطلاق الرصاص عليهم. في واقعة مثيرة أطلق جندي إسرائيلي النار على إسرائيلي آخر لأن ملامحه بدت عربية. الثاني، وهو الأرجح: أن الأمر كله منهجياً يستهدف إشاعة الرعب في المجتمع الفلسطيني على النحو الذي اعتادته آلة الحرب الإسرائيلية منذ تأسيس دولتها عام (١٩٤٨). انتفاضة السكاكين تؤكد مجدداً أن القهر لا يؤسس أمناً وأن القضايا العادلة لا تموت مهما أمعنت القوة في جرائمها. توجه الجيش الإسرائيلي لبناء سياج أمني على امتداد الحدود مع غزة تأكيداً لهذه الحقيقة واعترافاً بالعجز عن توفير الأمن رغم اتفاقيات التهدئة. لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويضاده في الاتجاه. ولكل قهر ردات فعل تضارعه. ذلك ما حدث بالضبط بلا تنظيم ولا قيادة ولا متحدثين باسم انتفاضة الفلسطينيين العاديين. في الانتفاضة كبرياء إنساني جريح وشعور بالمهانة من ضياع أعدل القضايا الإنسانية. الخطر الحقيقي الآن ألا تجد فورة الغضب مجراها السياسي وألا تتبلور في قوة تعرف طريقها وكيف تصل إلى أهدافها. بمعنى آخر، الخطر ألا تتطور الانتفاضة من اليأس إلى الرجاء. اليأس غضب عابر والرجاء رؤية أرحب. هذه مسألة خطاب سياسي تفتقده القضية الفلسطينية بفداحة. الأسوأ أنها تفتقد الآن من يتحدثون باسمها أمام الضمير الإنساني على النحو الذي توافر لها في سنوات الصعود والإلهام. قبل سنوات طوال نسبياً عقد مؤتمر لنصرة القدس في قاعة الأمويين بدمشق. أحد الأسئلة التي طرحت: كيف نخاطب الضمير الإنساني؟ أجبت من فوق منصة المؤتمر: كان لدينا محمود درويش وسميح القاسم وغسان كنفاني وآخرون من أدباء الأرض المحتلة، الآن من يتقدمون للحديث ينفرون من كل قيمة بل يكادوا يدفعوننا إلى الكفر بالقضية الفلسطينية نفسها. من أعلى المدرج هبطت باندفاع ليلى خالد، أشهر فدائية فلسطينية في التاريخ، والكوفية حول رقبتها، وآثار التعذيب ربما ما زالت ماثلة على جسدها وهي تؤكد المعنى وتلح عليه. إذا كان مثل هؤلاء يتحدثون باسمها فإنها تستحق اللعنة. القضايا الكبرى تنتدب من يدافع عنها ويتحدث باسمها. ورغم كل يأس فإن فلسطين سوف تنجب أصواتاً جديدة تلهم وتؤثر في الوجدان الإنساني. غير أن أحداً لا يستطيع أن يلهم بغير رؤية سياسية. من ناحية واقعية سقطت اتفاقية أوسلو ولا تسوية سياسية ممكنة مهما كانت إجحافها في أي مدى منظور. الحكومة الإسرائيلية تعلن رفض حل الدولتين الذي توافق عليه المجتمع الدولي دون أن يحتج أو أن يتدخل لوقف الاستيطان والتهويد وربما هدم المسجد الأقصى نفسه. أقصى ما هو مطروح الآن فلسطينياً الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية بوثائق وشهادات تدين إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وممارسة إعدامات ميدانية بالاشتباه. حديث السلطة لا يرتفع إلى مستوى الاستعداد اليومي للموت الذي يبديه الفلسطينيون العاديون... الوسائل القانونية والدبلوماسية على أهميتها لا تكفي. هناك مواجهات على الأرض تستدعي تصرفات سياسية أكثر جدية أولها إلغاء اتفاقية أوسلو لا وقف الالتزام بها، على ما قال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من فوق منصة الأمم المتحدة. في الإلغاء حل للسلطة وإعادة تعريف القضية الفلسطينية كقضية احتلال وشعب يقاوم، لا مساحيق تجميل ولا كلام مراوغ عن التسوية. وثاني هذه التصرفات إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية تعبيراً عن وحدة الشعب والقضية. كان تقويض المنظمة إحدى النتائج الخطرة لأوسلو. الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وقع هذه الاتفاقية باسم المنظمة كأنه يحلها في الوقت نفسه. تبدت في ذلك الوقت مطالبات بالفصل بين السلطة والمنظمة لكنها تبخرت سريعاً. كان عرفات رجلاً صلباً كالفولاذ ليناً كالمطاط بحسب وصف الشاعر الفلسطيني الأكبر محمود درويش على ما نقل الصحفي الفرنسي الراحل إريك رولو في مذكراته. حاول عرفات أن يضع قدمه على الأرض، فاوض وتنازل لكنه سلح ومول كتائب مقاومة. في لحظة تصور رئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون أن عرفات أكلهم الأكلة غداة التوقيع على أوسلو كما استمعت على مائدة غداء نظمتها شخصية أكاديمية فلسطينية مقربة من فاروق القدومي أحد مؤسسي فتح الذي ناهض المعاهدة. الذي حدث بالضبط أننا نحن الذين أكلنا الأكلة. أحد أوجه المأساة الفلسطينية أنها فقدت أيّ برامج مرحلية وغيبت فيها أي وثائق سياسية أو رؤى يعتد بها للتحديات الماثلة وآفاق المستقبل، وهي التي ذخرت بمثل هذه البرامج والوثائق والرؤى كما لم تذخر قضية أخرى في التاريخ. فقر الأفكار من فقر التنظيمات، بعضها تراجعت تحت وطأة الفساد المستشري في جنباتها وبعضها الآخر تقوضت سمعتها بأثر انخراطها في انحيازات إيديولوجية على حساب القضية الفلسطينية. حماس تؤيد الانتفاضة الجديدة، هذا لا شك فيه. لكنها تقف شبه عاجزة عن أي دعم، فالعمل المسلح يعرضها لقصف إسرائيلي يهدد حكومتها. كالسلطة تماماً فهذه الحكومة عبء على القضية الفلسطينية. أحد الوجوه الأخرى للمأساة الفلسطينية أنها بلا غطاء سياسي وشعبي يعتد به في محيطها، فالعالم العربي مشغول بأزماته وحروبه وبراكين النيران فيه وحكامه يتمنون اختفاءها من الذاكرة بقدر ما تمنى ذات يوم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين أن يصحو ذات صباح فلا يجد غزة على الخريطة. رغم ذلك كله قد يتبدى من جنبات اليأس أمل في المستقبل، فالشعوب التي يموت أبناؤها بكبرياء لن تعجز عن أن تنتدب من يتحدث باسمها ويصحح خلل مسارها.