في حالات الشعور بالنزق من الكتابة وبكل ما يرتبط بها أو ينتج عنها نعود إلى سؤال الكتاب الأزلي: لماذا نكتب؟ ما الذي يضطرنا لأن ننفضح بهذا الشكل العلني المكشوف عبر الكلمات المرسلة إلى الآخرين بشتى الوسائل؟ ولا أعني بالكتابة هنا التدوين وحسب ولكن أي إبداع يتعامل مع الكلمة تدويناً وشفاهية. ثم إن السؤال يتضخم عندما يكون السائل شاعراً وتكون مادة الكتابة هي الشعر. سألت الشاعرة البحرينية الجميلة حمدة خميس ذات لقاء صحفي سؤالاً كان يفترض أن أوجهه إلى نفسي كلما مررت بذلك النزق المثير في حالات الكتابة، قبلها بقليل، أو بعدها بقليل، ولكن ليس أثناءها بالتأكيد: لماذا الشعر، القصيدة بالذات صارت خيارك في الكتابة؟ لماذا لم تتجهي لفضاءات الرواية والقص وهي الفضاءات التي تفضلها المرأة عادة؟ أجابت حمدة يومها بهدوئها المعروف خارج منطقة الكتابة والشعر: «لم يكن الشعر خياراً كان استجابة لخصوصيتي السرية على الكتاب الذي كنت أخبئه تحت الفراش حتى يغرق البيت في نوم ساذج عميق، لأخرجه من مخبئه السري وأقرأ على ضوء فانوس ضئيل حتى صباح يقظة الجميع، لأغتسل وأحمل حقيبة المدرسة التي لم تمس كتبها، وأذهب كتلميذة نشطة الى المدرسة. تلك السرية جعلت لي مزاجا صامتا وميلا للعزلة والاختزال في الحديث. ولأن الشعر اختزال للغة وتكثيف سري للدلالة. بينما أن السرد تكثير للغة وكشف معلن للدلالة، قلت الشعر ولم اقل السرد. لعل هذا الترابط بين السرية والشعر هو ما يحيلنا الى الشاعرية.. لعل!». وبقيت «لعل» الرجاء الأخيرة في إجابة حمدة معلقة، منذ سنوات، بانتظار تعليق أو ربما أجابة بديلة. لم أجد ذلك التعليق ولا تلك الإجابة حتى الآن. كنت أحمل إجابتها وأحاول إعادة إنتاجه بما يناسبني أيضا.. كدت أنجح في محاولتي لولا إنني اكتشفت أنه لا يناسبني. لقد كان الشعر بالنسبة لي خياراً مبدئياً وقراراً كاملاً، وليس مجرد نتيجة لعلاقة سرية أو علنية بالكتاب. لم أكن مؤمنة أبدا بأي علاقة مفترضة، بقوة، ما بين الشعر والكتاب، أو بشكل أوسع ما بين الإبداع والثقافة بمعناها المرتبط بالتدوين الكتابي. الإبداع شيء آخر تماما لا يقترب من بعيد أو من قريب من الثقافة أو من التعليم حتى وإن استفاد منهما أو اتكأ عليها وهو في طور الظهور الى العلن أو النشر والانتشار بأي وسيلة من الوسائل. أكاد أجزم، من دون الاستعانة بمختبرات لغوية أو إبداعية ولا دراسات علمية، أن الإبداع كان قد ظهر في مرحلة سابقة جدا على مرحلة الكتابة والثقافة، ذلك أنه نشاط فطري موغل في عفويته وقدريته أحيانا حتى وبعضنا يختاره كخيار ويقرره كقرار. لا يمكن أن ينجح هذا البعض في قراره ولا في خياره لولا أنه يسند أساسا على موهبة مختبئة تحت أطنان من المناشط البشرية الأخرى. لكن هذا لا يعني أن إجابة حمدة خميس ليست حقيقية أو دقيقة بل هي حقيقية تماماً ودقيقة تماماً بالنظر الى خصوصية كل تجربة كتابية أو شعرية لكل كاتب أو شاعر.. وبالتالي ستصدق كل إجابة من أي كاتب أو شاعر على ذلك السؤال مهما كان وكانت! ثم أن جزءاً مهماً من حقيقة الكتابة أو الإبداع بشكل عام يكمن وراء ذلك السؤال الذي لا يغني ولا يسمن من جوع الكاتب للكتابة حتى وإن وجد الإجابة عليه!