تروج منذ مدة ليست بالبعيدة (منذ اندلاع انتفاضات الربيع العربي على وجه التحديد) مقولة تشارف على الأطروحة، مفادها الاعتقاد بأن المغرب قد أضحى حقا وحقيقة نموذجا يحتذى به، إذا لم يكن بمعظم دول العالم الثالث، فعلى الأقل بالنسبة لدول المنطقة العربية مشرقا ومغربا على حد سواء. يستدل أصحاب هذه المقولة/الأطروحة (أفرادا ومؤسسات بحث، ساسة وصناع رأي عام) في دفوعاتهم العامة، على مجموعة من المعطيات الجوهرية الدالة، تعتبر بنظرهم كافية للخلوص إلى استنتاج أن المغرب يعد بذلك "استثناء في النجاح"، في محيط باتت قاعدته الأساس أقرب إلى الفشل والتفسخ منهما إلى الوحدة والاستقرار: - أول معطى يتكئ عليه الدافعون بهذا الطرح، هو القول بأن المغرب قد نجح في إطلاق ورش كبرى في الإصلاح السياسي والمؤسساتي، مكنته منذ العام 2011، من امتصاص غضب شارع متأجج (من تلقاء نفسه كما بعدوى الانتفاضات العربية)، من تخفيف منسوب الاحتقان المزمن بين النخبة الحاكمة وباقي أفراد الشعب، ومن فتح المسالك لتجسيد انتقال ديمقراطي نخره فأجله -ولعقود طويلة- سرطان الفساد والاستبداد. إن إقدام الملك -يقول هؤلاء- على كتابة دستور جديد يقسم الأدوار "بإنصاف" بين السلط السياسية الثلاث، لا يعبر في رأيهم عن جنوح الملكية (طواعية أو تحت الضغط) لإزاحة كسوة الكليانية التي لطالما لبستها، وحالت دونها ودون اقتسام السلطة مع باقي الفرقاء، بل يجب أن يقرأ باعتباره مدخلا جديدا لبناء دولة الحق والقانون، لتكريس الحريات الفردية والجماعية، لضمان تمثيلية ديمقراطية لكل فئات وأطياف الشعب، ولربط مبدأ المسؤولية بمعايير المحاسبة والمساءلة في الزمن والمكان. " يقول المدافعون عن وجود نموذج مغربي خاص إن إقدام الملك،على كتابة دستور جديد يقسم الأدوار "بإنصاف" بين السلط السياسية الثلاث، لا يعبر في رأيهم عن جنوح الملكية لإزاحة كسوة الكليانية التي لطالما لبستها، بل يجب أن يقرأ باعتباره مدخلا جديدا لبناء دولة الحق والقانون " - ثاني معطى يرتكز عليه الدافعون بأطروحة "الاستثناء المغربي" ما دام هذا الأخير هو عنوان مقولة النموذج، ويتمثل في القول بأن المغرب قد عمد منذ بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، إلى سن إصلاحات اقتصادية "جذرية"، مكنته من ركوب ناصية سياسات عمومية ناجعة، تحكمت في التوازنات الماكرو/اقتصادية الكبرى، فسحت في المجال لتنمية مستدامة تغيأت تسريع وتيرة النمو، لكن دونما التفريط في حق الأجيال القادمة بالبوادي كما بالمدن والحواضر سواء بسواء. لا يعدم أصحاب الأطروحة أعلاه سبل المحاجة لتزكية طرحهم، إذ لا يقتصرون لإثبات صحة مقولتهم هاته، على مؤشرات "صفاء مناخ الاستثمار" وترسانة القوانين الفاسحة في المجال لفعل رجال المال والأعمال، بل يرفعون عاليا شهادات "حسن السلوك والسيرة" التي تقدمها للحكومة المغربية المؤسسات المالية الدولية، وطلبات الاستثمار الأجنبي التي تتلقاها من كبريات الشركات العالمية العابرة للقارات، ناهيك عن انسيابية قرارات الحصول على القروض والمعونات من الجهات الأجنبية ذات الاختصاص. - أما ثالث معطى يركب ناصيته أصحاب مقولة "النموذج المغربي" فيكمن في زعمهم بقدرة النخبة الحاكمة في المغرب على تدبير التنوع الثقافي وتثمين خاصيات التعدد الإثني والعرقي واللغوي، والذي كان من شأن سوء تدبيرهما بفضاءات جغرافية أخرى، انشطار الوحدة الوطنية وتقوقع الأقليات الهوياتية وضياع اللحمة الجامعة بجريرة كل ذلك. لا يكتفي أصحاب هذا الرأي بالتذكير بما أولته النصوص التأسيسية الكبرى للمصادر المتنوعة للهوية المغربية (العربية والإسلامية والأفريقية والأمازيغية)، ولا بما بات عليه وضع الأقليات العرقية أو اللغوية أو الدينية في ظل الدستور الجديد، بل يذهبون لحد التذكير بإقدام ذات الدستور على إدراج "حريات جديدة" لم يعهد العالم العربي مثيلا لها، من قبيل الحريات الفردية المكرسة لحرية المعتقد على وجه التحديد. هي كلها معطيات معبرة دون شك، بل ولا يمكن للمرء المزايدة عليها أو بشأنها كثيرا: - فالمغرب قد صاغ حقا دستورا متقدما (مقارنة بالدساتير السابقة وبالدساتير العربية أيضا)، لم يكتف بإزاحة القدسية عن المؤسسة الملكية، أو تحجيم دورها قبالة مؤسستي الحكومة والبرلمان، بل أعاد الاعتبار للشرعية الشعبية، لا سيما عندما نص بالواضح الصريح على ضرورة أن تنبثق المؤسسات التشريعية والتنفيذية من صناديق الاقتراع مباشرة، عوض اقتصارها ولسنين طويلة مضت، على تعيينات من فوق هي إلى وضعيات الريع السهل أقرب منها إلى وضعيات الاستحقاق المكلف. وعلى الرغم من أن النص الدستوري لم يخضع في مجمله للتنزيل، بحكم حداثة صياغته وحاجته إلى النصوص التنظيمية المترجمة له على أرض الواقع، فإن إعمال بنوده المتعلقة بالجهات مثلا قد أفرز حقا وحدات جغرافية واقتصادية سيكون لها في حدودها الترابية القول الفصل في برامجها وسياساتها ومشاريعها المستقبلية، بعدما لم تكن الجهات إياها من قبل، إلا جزءا من كل لا خصوصية له تذكر. - والمغرب قد نجح حقا في تثبيت توازناته المالية الكبرى حتى غدا "زبونا ذا مصداقية معتبرة" لدى المؤسسات المالية الدولية والمؤسسات الائتمانية والمصرفية والبنكية المعتد بها. لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل تعداه من لدن الدولة عندما عمدت إلى "فتح ملفات" صناديق اقتصادية واجتماعية كانت قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس، من قبيل صندوق المقاصة وصناديق التقاعد ذوات العجز البنيوي المستدام، فأخرجتها من الزاوية الحمراء، ومنحتها سبل الاستمرارية ولو إلى حين. - والمغرب استطاع -فضلا عن كل هذا وذاك- أن يدير "بحكمة" إشكالية التنوع الثقافي والتعدد اللغوي، فاعترف بكل الحساسيات في هذا المضمار، وحول كل التجاذبات بخصوصها إلى عناصر لإثراء المشترك العام، ولتثمين فضيلة الاختلاف في الشكل كما على مستوى المضمون. " الثابت أننا لا نزال بالمغرب بإزاء مشهد الاستمرارية الذي يبقي على طبيعة الجوهر ولا يطال إلا جوانب المظهر، بل قل إنه لا يمس المظهر إلا بقدر خدمة هذا الأخير للجوهر، جوهر المنظومة وجوهر الفلسفة الثاوية خلفها، وهو ما يعني انتفاء وجود نموذج خاص " كل هذه "الحقائق" قائمة دون شك، بل نحن على استعداد لمجاراة أصحاب أطروحة "النموذج" فيها. إلا أن ما سبق الحديث فيه لا يعبر برأينا إلا عن واقع نصف الكأس "المليان"، في حين أن النصف الفارغ يبقى حاضرا بقوة. ثمة -في اعتقادنا- ثوابت عدة تجعلنا نتحفظ على وسم التجربة المغربية للسنين الأخيرة، بالنموذج الذي يحتذى به في العالم الثالث وفي المنطقة العربية على وجه الحصر: - الثابت الأول أننا لا نزال بالمغرب بإزاء مشهد الاستمرارية الذي يبقي على طبيعة الجوهر ولا يطال إلا جوانب المظهر، بل قل إنه لا يمس المظهر إلا بقدر خدمة هذا الأخير للجوهر، جوهر المنظومة وجوهر الفلسفة الثاوية خلفها. صحيح أن الدستور قد أزاح عن المؤسسة الملكية صفة القداسة التي لازمتها لعقود طويلة، وجعل منها بالمحصلة الأولية، فاعلا ضمن فاعلين آخرين (رئاسة حكومة وبرلمانا). وصحيح أنه نص على مقامها الأسمى للتحكيم بين الفرقاء المباشرين. هذا صحيح. لكن الذي لا يمكن أن تزيغ العين عن إدراكه إنما تنصيص الدستور (والعرف أيضا) على الوظيفة التنفيذية للملك، باعتباره رأس الدولة الذي لا قرار إلا قراره أو بمشورته المباشرة أو من خلال مستشاريه. بالتالي، فقد بتنا -والحالة هاته- بإزاء توزيع هلامي للأدوار يبدو فيها (ظاهريا على الأقل) أن ثمة فعليا اقتساما حقيقيا للسلطة، في حين أن الأمر لا يخرج في مضمونه، عن كونه إعادة لتركيزها بيد مستوى واحد بهذا الشكل أو ذاك. والشاهد على ذلك أن رئيس الحكومة ذاته لا يخجل من الاعتراف بأنه إنما ينفذ سياسة وتوجيهات الملك، وأنه لم يأت ولا نية لديه لمنازعة الملك اختصاصاته، أو للتجاوز على المكانة الرمزية التي يتبوؤها منذ أزمان غابرة في تشكيلة البنيان السياسي المغربي. ليس ثمة إذن ما يدعو للادعاء أو يثبت بالحجة الدامغة، بأننا حقا بإزاء نموذج يحتذى به، إذ كل المنظومة لا تزال متمحورة حول رأس الدولة (كما بكل الدول الشبيهة)، لا يزيغ عن إدراك حقيقتها إلا متابع شارد أو متطرف لا يعتد برأيه. - الثابت الثاني أن الدولة العميقة التي ساد منطقها وتسيد طيلة العقود الستة الماضية، لا تزال سيدة ومتسيدة لحين كتابة هذه السطور، إذا لم يكن بالمباشر الواضح، فعلى الأقل من خلال تحكمها في شبكات النفوذ والمصالح التي لا سبيل للتحايل على قوتها وسطوتها، أو الحد من القابلية المتوفرة لدى مكوناتها لتحييد الغرماء كما الأصدقاء، إن تسنى لهؤلاء الوقوف في وجهها أو التطلع لمواجهتها أو النسج على النقيض من سلوكها. وعلى الرغم من أن ظاهر الأمور لا يشي كثيرا بقوة حضورها في الفضاء العام، فإن تحركها لا يمكن إلا أن يشعر به المرء ويستشعره، لا سيما عندما يطرأ طارئ أو يستجد في الأمر ما "يستوجب" خروجها للملأ أو يدفعها للتعبير عن موقفها وإن من وراء الحجاب. " ليس ثمة ما يوحي بأننا حقا بإزاء نموذج مغربي، فما بالك باستثناء مغربي ما، إذ معظم مواصفات دول العالم الثالث لا تزال قائمة بهذا الشكل أو ذاك، بل إن ثمة نية ثابتة كي يعمد إلى إعادة إنتاج المنظومة، لكن بأدوات ناعمة هذه المرة، ما دامت الأدوات الخشنة لم تعد تعط الأكل المرغوب فيه " وحجتنا في ذلك ما جرى في انتخابات مجالس الجهات لشهر سبتمبر/أيلول الماضي، حيث كان للدولة العميقة الباع الطويل في صناعة رؤساء جهات لم تتحصل أحزابهم على أصوات تؤهلهم لذلك، وكيف كان باعها أطول في استبعاد مرشحين لرئاسة جهات تقدمت أحزابهم بها، لكنهم لم يظفروا برئاستها بسبب ترتيبات من لدن الدولة العميقة مباشرة، أو باستقطابات غير مباشرة لسياسيين تقدمت الولاءات الشخصية لديهم على قوة الالتزام بالانتماء الحزبي. ليس ثمة -هنا أيضا- ما يجعلنا نتبنى أطروحة "النموذج المغربي" اللهم إلا إذا اعتبرنا طبيعة سلوك الدولة العميقة بمثابة نموذج، وهو كذلك فيما نعتقد بمقياس التحايل على إرادة الكتلة الناخبة واستصدار اختياراتها. - الثابت الثالث أنه ليس لهذا "النموذج" من رافعات تشد عضده أو تحمل لواءه، إذ لا تزال النخب القديمة هي التي تؤثث المشهد العام وتعطيه الزخم المعتاد. كيف لنموذج أن يقوم، فما بالك أن يستقيم، إذا كانت روافده المركزية عبارة عن نخب متهالكة، فاسدة، تنشد المناصب والامتيازات، وليس لها أدنى دراية بما هو المشروع المجتمعي أو الإرادة الشعبية أو دولة الحق والحريات؟ إنها نخب الاستمرارية وليست نخب التغيير، نخب الإبقاء على الوضع القائم لا نخب القطيعة معه أو التجاوز عليه. إنها بالتالي، جزء من المنظومة المنبنية على ضبط التوازنات والتلاعب بالحقائق وإخفاء الإخفاقات. إنها تكتفي بمنح الشعب دورا وظيفيا، تنتهي مدة صلاحياته بمجرد انتهاء هذا "الاستحقاق الانتخابي" أو ذاك. هي كلها -في اعتقادنا- ثوابت كبرى تبرز أنه ليس ثمة ما يوحي بأننا حقا بإزاء نموذج مغربي، فما بالك باستثناء مغربي ما، إذ معظم مواصفات دول العالم الثالث لا تزال قائمة بهذا الشكل أو ذاك، بل إن ثمة نية ثابتة كي يعمد إلى إعادة إنتاج المنظومة، لكن بأدوات ناعمة هذه المرة، ما دامت الأدوات الخشنة لم تعد تعطي الأكل المرغوب فيه. بالتالي فإن الذي نحن بإزائه في المغرب هو استمرار القائم من أوضاع، وأن ما يتم الترويج له من إصلاحات إنما يتم بالاحتكام إلى فلسفة ذات النظام. صحيح أن تلك الفلسفة قد تخضع لبعض الإصلاحات في المظهر تضمن لها بعد الاستمرارية الذي تنشده، إلا أنها لا تذهب لحد المس بالجوهر، جوهر ركائز البنيان الذي تقوم عليه المنظومة، ولا يمكنها أن تستقيم من دونه. إننا إزاء نموذج القديم الذي يكابر في الرحيل، ونموذج الجديد الذي لم تكتب له سبل الاستنبات بعد.