في أعمالهم النقدية، كانت النقطة المركزية التي تقاطعت عندها مشروعات عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وهاشم صالح، هي إنجاز «ثورة ثقافية» تطيح الأبنية والأنماط الفكرية والثقافية الجامدة والمفوتة، كمقدمة لإنجاز المشروع التحديثي العربي. فأوروبا، في رأي صالح، لم تنطلق حضارياً، إلا بعد أن أنجزت هذه الثورة. وعليه، فإن تحرير الفكر هو الشرط الأول والمسبق لكل تحرير اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي. من هنا يكون صالح، كما العروي والجابري وأركون وأدونيس، قد أناط النهضة العربية بالثورة الثقافية والنقد الثقافي للمجتمع والفكر العربيين. وعلى هذا الأساس، دأب الخطاب الثقافي على إسناد دور إنقاذي رسولي، ومهمات أيديولوجية جذرية إلى المثقف العربي. هو الذي يجب أن ينهض بالعلم والثقافة والاقتصاد، وهو الذي يجب أن يضطلع بالتغيير الديموقراطي، وهو الذي يجب أن يتصدى للاستبداد بكل وجوهه وللتخلف بكل تجلياته، وهو الذي يجب أن يسقط كل القيم الماضوية السائدة ليحل محلها قيم التقدم والحداثة. باختصار، ما طرحه خطاب النقد الثقافي هو ثورة معرفية كاملة وشاملة تطيح كل أسس المجتمع العربي التاريخية، تماماً كتلك التي توصل إليها الغرب المعاصر بعد مخاضات طويلة وعسيرة استمرت قروناً وكلفت ملايين الضحايا، وهي لا تزال إلى الآن قيد المساءلة والمراجعة. إزاء دور كهذا ومهمات كهذه، أصيب المثقف العربي بالارتباك، فما طرح عليه من مهام كبرى لم يكن مهيّأً بحكم تكوينه وثقافته التاريخيين لأدائها، ولم يكن قادراً، لأجل هذا الأداء، من الوصول إلى عمق النسيج الاجتماعي العربي بكل تعقيداته، وممارسته التأثير المرتجى في ظل الأوضاع العربية السائدة. ما حدا بالبعض إلى التشكيك بدور المثقفين الرسولي، إذ رأى أن الحلول التي يقدمونها قاصرة عن إخراج المجتمع العربي من بحرانه إن لم تزد في هذا البحران والضياع، وما ذلك إلا لفشلهم في تكوين رؤية حضارية شاملة، ولبعدهم من معطيات الحياة المباشرة، فيما رأى آخرون أن المثقفين العرب كانوا قليلي الجدوى في مجريات الأحداث والأفكار، فتاريخ تعاملهم مع قضاياهم ومع الواقع، يشهد على فشلهم وهامشيتهم. مع ذلك، يبدو الدور الذي يُسند إلى الثقافة في فكرنا العربي الراهن كأنه الأكثر جذرية وشمولاً، كما أن النقد الذي يواجهه المثقف يبدو الأقسى والأعنف. ففي «الفساد وإعاقة التغيير والتطور في العالم العربي» المنظمة العربية لمكافحة الفساد 2015، يحمّل شربل نحاس المثقفين مسؤولية استشراء الإرهاب والأصولية، بإحجامهم عن صوغ خطاب سياسي يتعامل مباشرة مع الواقع، وبتركهم الساحة للأصولية وتخلّيهم عن أعمال الفكر النقدي، وصولاً إلى اتهام النخبة المثقفة بإفساد الربيع العربي لانعدام جرأتها «في اختراق مساحات الأيديولوجيا ومساحات الخطاب لقلبها من داخلها». وذهب الفضل شلق إلى أن المثقفين العرب لم يبادروا إلى نسج سياقات فكرية تحقق الأمن الفكري – الاجتماعي والأمن الفردي للمواطن، ما جعل العقل العربي يدور حول نفسه في حالة من التشوش والضياع الأيديولوجي. أما داود خيرالله فخلص إلى أن النخب المثقفة قصرت في إرساء مفهوم الحرية في الثقافة العربية المعاصرة، وقد تهربت من تحمل المسؤولية لنقص في الجرأة الأدبية وميل إلى الخضوع لإغراءات الفساد. هكذا، تم الانتقال من نقد الثقافة العربية بوصفها أصل البلاء في الأزمة الحضارية المتمادية إلى نقد المثقف وتحميله تبعة التخلف العربي بالكامل لإعراضه عن القيام بالدور الريادي المرتجى وتلكؤه في إنجاز الثورة المأمولة. لكن اتهام المثقفين العرب طالما انطوى على إجحاف ومجافاة للحقيقة. فإذا كان صحيحاً أن فئة من المثقفين آثرت الابتعاد عن هموم الأمة والاغتراب عن قضاياها الكبرى، إلا أن ثمة فئة أخرى انغمست حتى الصميم في هذه الهموم والقضايا ودفعت من هنائها وحياتها ثمن تصديها لتخلف الواقع العربي وتكلس بناه السياسية والاجتماعية والأيديولوجية. فمن إعدام أسعد الشدياق إلى اغتيال جبرائيل دلال وعبدالرحمن الكواكبي وكمال الحاج وحسين مروة ومهدي عامل وفرج فودة، ومن تشريد أحمد فارس الشدياق إلى تشريد نصر حامد أبو زيد، ومن تكفير فرنسيس المراش إلى تكفير صادق جلال العظم، ومن محاكمة طه حسين إلى محاكمة مرسيل خليفة، إلى ممارسات التكفيريين الظلاميين في كل أنحاء العالم العربي بحق الأدباء والمفكرين والفنانين، ما زالت المواجهة مستمرة مع عقل القرون الوسطى وظلامها. ومن الواقعية والموضوعية، الاعتراف بمحدودية الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف في العالم العربي في ظل تجاوز أمية البالغين الـ30 في المئة، وأمية النساء الـ70 في المئة في غير قطر عربي، بينما يعيش مئة مليون عربي تحت خط الفقر. فكيف سيتمكن المثقف العربي من اختراق «مساحات الأيديولوجيا لقلبها من داخلها» بينما يبقى خطابه محاصراً في أوساط نخبوية لا يستطيع تجاوزها إلى الأيديولوجيا الجماهيرية السائدة، وفي حين تحتل مقدمة الاستهلاك الثقافي مطبوعات عصر الخراب – بلغة ابن خلدون – من كتب الخرافات والأساطير والتنجيم، ولا تتجاوز مبيعات أفضل الكتب، ذات الطابع الحداثي، آلاف النسخ لمئات ملايين العرب؟ ثم هل تتغير المجتمعات وتتقدم بإرادة المثقفين وحدهم، أم من خلال حراك تاريخي اقتصادي اجتماعي أيديولوجي شامل ينخرط فيه المجتمع ككل؟ فهل كان لثورة أوروبا الليبرالية أن تبسط سيطرتها لولا ثورة عقلية علمية حداثية كاسحة تمثّلت أولاً بإلغاء أمية نصف السكان منذ القرن الثامن عشر؟ إلى هذه الأسئلة الإشكالية في رأينا، يجب أن ينصرف النقد وليس إلى المثقف ككبش فداء لما نحن فيه من تخلف وتردٍّ تتعاظم وطأته إزاء عالم ماضٍ في ثورته المعرفية من دون هوادة. * كاتب لبناني