في عالم السياسة، يكاد موضوع ملء الفراغ ينحصر في الجغرافيا السياسية الإقليمية والدولية. لا شك في أن هذه الأمور في قمة الأهمية، وشمس البرهان نراها في المنطقة العربية، التي تتصارع الدنيا بجهاتها الأربع على ملء الفراغ فيها. كلام العلماء لا يعلى عليه، حين يقولون إن الفراغ ليس فراغا وليس بفارغ. فحتى حين يجرد المكان من أشكال المادة بكل أنواع جزيئاتها، يبقى ما يسميه الفيزيائيون الحقل الكمي، لكن نقل هذه الحقيقة العلمية إلى الجغرافيا السياسية، يرينا العجائب من السخرية والدعابة السوداء، والأعجب هو تقبلها بلا مبالاة وحيادية ساذجة من قبل الشعوب والأنظمة على السواء. وإلا فكيف يكون العالم العربي فارغا من الوزن الجيوسياسي رغم وجود كل هذه الدول بشعوبها وأنظمتها؟ وكيف تحتاج هذه الأبعاد المليونية أرضا وبشرا، إلى أن يأتي الغرباء من الأصقاع البعيدة ليكون ملء الفراغ على أيديهم؟ الأحجية الأغرب، هي أن ملء الفراغ على أيدي الغرباء، لا يتسنى إلا إذا أفرغوا المملوء، أي أخرجوا أصحاب الجغرافيا السياسية من المكان، إلى بلدان غير عربية أو إلى باطن الأرض أو أعماق البحار. أليس ما حدث ويحدث هو ملء الفراغ بإفراغ المملوء؟ هنا نبلغ المرام ونصل إلى المرمى. فمعاناة الشعوب التي مُنيت بتبعات الفراغ الجيوسياسي وأثمانه الباهظة،علة عللها إهمال ملء الفراغات التأسيسية، الذي يحول من دون قدرة الغرباء على الطمع في الاستيلاء على السيادة الجيوسياسية. الدول التي تُبتلى بلا مبالاة أنظمتها، تُهمل ملء فراغ التنمية، الفراغ الصناعي، الزراعي، الاقتصادي، فراغ البحث العلمي والتطويري، فراغ محو الأمية، الفراغ الثقافي، فراغ الاكتشاف والاختراع والإبداع، الفراغ الصحي والإسكاني والتعليمي، فراغ تنمية القدرات العسكرية وتأهيلها المستمر. وليُقس ما لم يُقل. أليس استهزاء بمصاير الشعوب أن يردد الناس أن الجغرافيا السياسية لا تحتمل الفراغ، ألا يعنى هذا أن تكون الميادين المذكورة كلها أمورا ثانوية هامشية تحتمل الفراغ؟ أليس معيبا أن يتحدث الجادون واللاهون في أرجاء العالم،عن عالم عربي مساحته أربعة عشر مليون كم مربع، عليها أكثر من ثلاثمئة مليون آدمي، ومع هذا بها فراغ جيوسياسي؟ لزوم ما يلزم: النتيجة الدرامية: لو نظر العرب إلى الفراغ الجيوسياسي كفراغ وجودي، لتغيرت المفاهيم. abuzzabaed@gmail.com