المسرح له ذائقة خاصة، وله حالة متفردة من حالات التلقي، تبعا لمناهج إخراجه وحالاته! ولعل خاصية (هنا والآن) هي التي ظل المسرح في أنحاء العالم وحتى يومنا هذا متفردا بها؛ فلا يعيرها لأحد من أقرانه من الصنوف الأخرى. ولذلك كانت نكهة المسرح التي تنتج عن حيويته مع المتلقي، والتي يتفاعل معها المشاهد كونها (هنا والآن) فيندمج معها حتى يصدقها لأنه دخل بدوره في إهاب الشخصيات ذاتها، فيتألم لألمهم ويشقى بشقائهم، وحينما ينتهي العرض المسرحي يشعر المشاهد ذاته بنوع من السعادة لأنه وضع نفسه مكانهم، وهو ما أسماها أرسطو بـ(الإحلالية) لأنه لفترة زمنية حل محل الشخصية ثم خرج سعيدا بأنه لم يمر بتلك التجربة التي مرت بها الشخصية ذات الفعل المسرحي، أو سعيد بسعادة النهاية السعيدة التي مرت بها الشخصية لأنها خرجت من مأزقها. هذه الحالة التي يمر بها المشاهد سواء كانت مدرسة العرض حديثة أم قديمة هي ما تخلق نوعا من المتعة، والتي بذل فيها المشاهد قدرا كبيرا من الطاقة الزائدة أو السالبة فتتولد لديه طاقة إيجابية تشعره بالسعادة والمتعة. وكل ذلك لا يتم إلا بعوامل عدة يعتمد عليها العرض المسرحي سواء كانت في الكتابة أو الإخراج؛ ولكن أهم تلك العوامل وأشدها تأثيرا هي خاصية (هنا والآن) التي تعتمد على الفعل الآني الحي والحيوي ذي العلاقة المباشرة مع الجمهور حتى وإن انزوى الفعل المسرحي داخل العلبة الإيطالية (خشبة المسرح). ومن كوارث المسرح العربي أنه خرج علينا مسرحا داخل علبة (التلفاز)، وكأنه يريد أن يحل معضلة المسرح العربي ويخرجه من كبوته، ما زاد من عثراته عثرة أخرى وهي العامل النفسي للمشاهد، وهذا أهم ما يتفرد به المسرح كما ذكرنا، فإذا فقد المسرح خاصية هنا والآن فقد هويته، وتحول لمادة إعلامية سمّها ما تشاء! وقد سبق مسرح التلفزيون المصري بهذه التجربة وأسس ما يسمى بـ(مسرح التلفزيون)، بحيث أنه ينشئ عروضا مسرحية ثم يسجلها ويعرضها على الشاشة فيما بعد. وهنا نقول إن الوقع كان خفيفا على هوية المسرح وخاصيته الحية مع الجمهور لأنه كان يعرض العرض على الجمهور لفترة تتراوح بين الشهر والخمسة عشر يوما؛ مما يتيح للمتفرج أن يتلقى متعته في المسرح في تلك الفترة المجازة للعرض. ذلك لأنه كان يقوم على ذلك المشروع رجال عظام يعرفون ما هو المسرح وما هي وظيفته وما مدى تأثيره، فأصبح تسجيل العرض وعرضه على قناة التلفزيون تحصيل حاصل كما يقولون. ولكن حينما نقيم مشروعا يقوم بأكمله على عرضه على شاشة التلفزيون فأعتقد أنها كارثة للمسرح، بل وللجيل الجديد من جمهور المسرح هذا أولا. ثانيا: إذا نظرنا إلى ما يقدمه هذا المسرح المتلفز من نص وحبكة ومادة درامية ورسالة يحملها لجمهور أجبر على المشاهدة، فسنجد أنه عليه كثير من الملاحظات؛ أولها أننا لا نجد نصا محكما بل يعرض لنا نوعا من (الإسكتشات) الضاحكة والتي تبحث عن الضحك وأدواته بلا تكنيك درامي وللضحك في الدراما أدواته التي تختلف كثيرا عن الضحك الغريزي أو الفطري، فضحك الإسكتش يعتمد على موقف معين لا يتطور، بل يولد الضحك من داخله ثم ينتهي، وهذه ليست من خواص المسرح وإن اعتمد عليها في بعض المشاهد، لكنه لا يقوم عليها كما نراه في مسرح على إحدى القنوات العربية هذه الأيام، وهو ما يسمى بـ(مسرح مصر)، وفي رأيي أن مصر عريقة ورائدة بمسرحها والتي سبقت فيه كل الدول العربية بطبيعة الحال، بل وتعلمنا المسرح من مصر وانتقل إلينا منها وقاده أساتذة عظام أمثال يوسف وهبي وعزيز عيد ونجيب الريحاني وغيرهم، فالمسرح المصري أكبر وأشمل من تلك الإسكتشات التي نراها تعج بافتعال الضحك، وهذا يعزز ويقوي مفهوم المسرح لدى غالبية العرب أن المسرح مكان للضحك! برنامج المسرح المصري يتقدمه أحد رجال المسرح الذين طالما أمتعونا بمسرحياتهم الكوميدية، ولهم شأنهم كرموز كبيرة في عالم المسرح المصري والعربي، وعشقهم جمهورهم فترة كبيرة حتى الآن، ولذلك كان يتوجب أن نمعن النظر في هذا المشروع ليكون شجرة مثمرة في عالم المسرح العربي والذي أصبحنا جلنا نحزن لتهادي شمعته، لكن الأمل يتقد بدواخلنا كلما ظهر بصيص من الأمل على أيدي مبدعيه وهم لا يزالون كل يوم يطرحون الجديد. ففكرة تأصيل المسرح وتأصيل وظيفته ومفهومه مهمة شاقة تقع على أعناق صناعه، ولذا تكون المهمة شاقة وثقيلة وخاصة في مثل هذه الأيام التي تتوسع فيها قنوات الإمتاع والمشاهدة. ومن هنا يكون هذا البرنامج المقدم على إحدى القنوات في شكل مسرح منوط بهذه الإشكالية ومدى ثقلها وتحسن مفهومها وترسيخ مفهوم المسرح واسترجاع جمهوره المهاجر بدون الإغراق في الضحك على حساب المادة الدرامية التي يتوجب أن تحمل رسالة هامة في صنع الوعي وإيقاظه وتربية النشء إن جاز التعبير. التقيت بمخرج مسرحي أسند إليه إخراج عرض في إحدى الجامعات فاشتكى من كيفية استقبال الطلبة لفكرة نص مسرحي منتقى وتقبلهم أعباء عرض مسرحي متقن، فهم يطلبون منه أن يخرج لهم عرضا مضحكا على غرار هذا البرنامج الذي شاهدوه، وبالتالي حصل لديهم خلل في مفهوم المسرح وما يجب أن يكون عليه، فهؤلاء الطلبة جيل جديد سيحمل شعلة المسرح فيما بعد، فكيف نطوعهم بعد أن اقتنعوا أن ما يشاهدونه من مسرح مثال يجب أن يحتذى به! ومن هنا أصبحت لدينا مشكلة جيل يتقبل المسرح بطريقته الخاصة، والتي فرضها عليهم مجموعة من الشباب الصاعد الذين أراهم جيلا جيدا في التمثيل وفي استدرار الضحك لو أنهم وظفوا توظيفا جيدا وطوع أداؤهم لخدمة عرض مسرحي متكامل دون السعي وراء الإضحاك، ولكان مشروعا جيدا إلى حد ما رغم أن المسرح لا يؤدي وظيفته إلا على عرشه المخصص له (خشبة المسرح) وبدون زجاج وتسجيلات وما إلى ذلك، فالمسرح كالمسؤول العظيم الذي لا يأتي إليك بل يجب أن تحدد له موعدا ثم تلبس ملابسك وتستعد له، وتنزل من منزلك وتذهب إليه لمقابلته، لأنه ملك الفنون.