حدثنا من خبر البحر، تجربة واهتماماً واستماعاً لقصص وحوادث البحارة أن مواطناً خاض تجربة صيد السمك بالقراقير، وبما أن هذا الصيد بهذه الطريقة يحتاج إلى وضع القرقور في مكان آمن، يعرف مكانه بطريقة النيشان أي العلامة وتسمى أحياناً جيبال وهو ما يصفه الباحث التراثي محمد أحمد جمال بمثابة الفخ كأحد المسميات أو أن يكون في مكان معروف لدى البحار على سبيل المثال مشعورة أو لحف أو فشت بحيث تكون بالممارسة والخبرة والتجربة معرفة اهتداء لموضع القرقور. غير أن هذا البحار الذي يخوض التجربة لأول مرة، لم يجد وهو في البحر وقتها إلا الغيمة في السماء دليلاً على مكان القرقور واستودع مصيدته الله بانتظار العودة مرة أخرى والعثور على القرقور الذي كان نيشانه الغيمة... وعند عودته مرة أخرى وهو يمني النفس بالصيد الوفير نظر إلى السماء فلم يجد الغيمة فقد حركتها الرياح، وعبثاً بدأ يبحث عن القرقور وإذا به يسقط في يديه، فقد ضاع القرقور وضاع أمله في الصيد، وعندما سأله زملاؤه البحارة: ما هو نيشانك؟! قال: الغيمة وذهب ذلك مثلاً وقولاً لمن لا يتثبت من حاجاته ويكون له عليها دليل دامغ. هل نحن نمر في حياتنا في مثل ظروف هذا البحار الذي هو على نياته؟! أم أننا مطلوب منا بل أعقلها وتوكل كما هو في الحديث النبوي الشريف الذي رواه الترمذي؟ تذكرت هذه الحادثة وأنا استمع لأولئك الذين يعتقدون إنه بالنيات تتحقق الأماني والغايات دون الأخذ بالأسباب الوجيهة والإثباتات والبراهين الدامغة.. قد تقول لي إن الأوائل كانت الكلمة التي ينطقون بها لا يتراجعون عنها والمواقف التي يأخذونها يتمسكون بها وكانوا يتحرون الصدق، ويتحملون الأمانة ويوفون بالعقود والتعهدات، ويحترمون المواقف التي يقفونها، فقد كانوا رجالاً يحترمون آدميتهم، ويحترمون ذوات غيرهم. فكل ذلك صحيح وأكثر أيضاً، ولكن ذلك زمان كان الناس يعرفون بعضهم بعضاً، ربطتهم الأخوة، والصداقة الحقة كما قد تربطهم العلاقات الاجتماعية أو المنافع والمصالح الاقتصادية والتجارية وعاشوا عيشة القناعة والرضا... ولكننا اليوم في طمع الدنيا، تغيرت بعض النفوس وتضاربت المصالح والمنافع وبتنا في عالم الاتفاقات والتواقيع والشهود وشهود الشهود حفظاً للمصالح، وضماناً للحقوق، وبعد ما نلحق، فهناك من يحاول أن يتحايل وقد يجد ثغرة ينفذ منها، ويحقق من خلالها بغيته ومناه. فما أحوجنا إلى الصدق في القول والعمل وما أحوجنا لأن نصارح بعضنا بعضاً، وما أحوجنا لأن نلم شعثنا، ونوحد جهودنا وما أحوجنا لأن نكون قريبين من بعضنا بعضاً، فقد تكالبت علينا قوى الشر ونظر الطامعون نظرات سوداوية غرضها مد النفوذ، والتدخل في شؤون الآخرين ومحاولة فرض الوصايات وكأنهم الأفضل في كل شيء أو كأنهم هم وحدهم المنزهون وغيرهم قاصر، ولا يستحق أن يملك زمام أمره. وهذا لعمري من الأراجيف والأباطيل وأوهام الغطرسة والعنجهية البغيضة، والأحقاد والدسائس والنفوس المريضة.. ونحن طبعاً لا نستطيع أن نغير نفوسهم، وأهدافهم وغاياتهم ومراميهم، ولكننا نملك إرادة البقاء، ونملك إرادة التغيير وإرادة الاختيار، ونملك حريتنا وإرادتنا الحرة، ونملك تقرير مصيرنا بتكاتفنا ووحدتنا وجمع شملنا وتوحيد كلمتنا، ونستطيع أن نكون متضامنين مع إخواننا وأصدقائنا الحقيقيين. لقد كان أسلافنا بحسهم وفطرتهم وبمعتقدهم يقيمون الناس، ويقيمون الأحداث والمواقف ويتخذون ما يناسبهم ويتوافق مع آمالهم وتطلعاتهم، صادقوا الغريب، وتعاونوا مع من اختلف معهم في المعتقد، لكنهم وجدوا أن مصالحهم تتلاقى مع غيرهم، كان غيرهم أغنى منهم، لكنهم كانوا يملكون ما يسوقونه أو يتبادلونه فعاشوا وهم يبحثون على لقمة العيش بعرق الجبين، بالتعب والضنى وشظف العيش ولكنهم لم يثنِ عزمهم المنغضات والصعوبات والإحباطات، بل تغلبوا على الكثير منها شعوراً منهم بإرادة البقاء وبأن الخير هو فيما اختاره الله وأن الرزق بيد الله وحده، وفي السماء رزقكم وما توعدون سورة الذاريات الآية 22، اعتمدوا على أنفسهم في تدبير شؤون معيشتهم اشتغلوا بأيديهم، وصنعوا لأنفسهم بيوتاً، وزرعوا الأرض نخيلاً وثمراً تعاونوا في تحمل مشاق الحياة، لم يثنِ عزمهم تغير الأحوال وتبدل الأوضاع فقد شعروا بأن الأيام قلّب وأن الصبر والاحتمال هو طريق الانتصار على الذات، والانتصار على كل ما يحول دون بلوغ الأهداف. عرفوا طريقهم وسلكوا المسالك التي تؤدي بهم إلى طريق السلامة والأمان، واتخذوا من تجاربهم ومعرفتهم وخبرتهم نياشين للهداية والرشاد واحترموا وقدروا إرادة السماء لكنهم لم يتخذوا الغيم نياشين مسراهم.