وفي كل مشواري الطويل مع تحليل الخطاب، ظللت أكتم وأختزن ذات السؤال: هل تؤمن طوائف المذهب السني على كل تبايناتها برأس مثلث الهرم في "المرجعية" الفردانية تماما كما يحدث في المذهب الشيعي؟ وبالطبع، وكي لا يختلط الأمر هناك فوارق جوهرية بين "المرجع" وبين "الإمام الولي الفقيه" ونحن اليوم نناقش المصطلح الأول. انتهيت مساء البارحة من قراءة بحث قصير لطالب علم يحاول في صلب البحث أن يبرهن على انتفاء فكرة "المرجعية" في الخطاب السني، يحاول في ذات البحث أن يقول إن الخطاب السني فضاء مفتوح لا مجال فيه للاحتكام لعالم أو فرد. هنا تكمن الدهشة: في علم تحليل الخطاب (discourse analysis) تبرز نظرية "تواتر المفردات" للحكم على اتجاهات الخطاب. وفي سبع صفحات فقط من بحث يحاول نفي فكرة المرجعية في الخطاب السني، ورد ما يلي: تكرر اسم "ابن تيمية" ثلاث عشرة مرة وهذا يعني أن "المرجع" كان مكتوبا في الصفحة الواحدة مرتين. وردت مفردة "شيخ الإسلام" سبع مرات في سبع صفحات وهو لقب "مرجعي" لم يطلقه الخطاب السني على ابن عباس ولا على عبدالله بن مسعود وهما الاسمان اللذان نلفظهما مباشرة دون ألقاب الزيادة ما قبل الاسم. خلصت من قراءة البحث القصير جدا لأدلف على السؤال الأخطر: ما الفوارق في عالم اليوم بين المذهبين في القصة التاريخية لصناعة المرجع والمرجعية؟ ما الفرق اللغوي بين مصطلحي "الحجة والشيخ" في الألقاب التاريخية لـ"حجة الإسلام"، كما يقول أتباع المذهب الشيعي عند الحديث عن الإمام الشيرازي وبين "شيخ الإسلام" عندما يتحدث أتباع السنة عن ابن تيمية؟ ما الفوارق بين مصطلح "مرشد الثورة" لدى أتباع المذهب الشيعي وبين مصطلح "مرشد الجماعة" كما هو الاختراع لدى جماعة الإخوان المسلمين من أتباع المذهب السني المقابل؟ وسأختم بالقول: في نظرية علم الأديان الشهير للباحث والمؤرخ الإنجليزي، فيلبب سكوت، يتحول أتباع الدين إلى اختراع "المرجع" عندما يتقادم الزمن على المنبع والمصدر، وعندما يتحول الدين الواحد إلى مذاهب وطرق وملل ونحل. هذا بالضبط ما حدث للمسيحية عندما اخترعت فكرة "البابا" ومع الشيعة عندما خلقت فكرة "الولي الفقيه"، وأيضا مع الفصائل السنية عند ابتكار الإخوان هيكل "المرشد". وبالقياس، فإن السلفية التي تدعو إلى العودة للجذور والمنبع تتحدث عن "ابن تيمية" أضعاف حديثها عن ابن عباس وابن مسعود، مهما حاولت إنكار فكرة المرجعية. انتهت المساحة.