نفاجأ عندما نقرأ ونسمع التعليقات المرافقة لفوز «سيريزا». يفتقر نجاح [رئيس الوزراء اليوناني وزعيم «سيريزا» أليكسيس] تسيبراس إلى أي معنى بالنسبة إلى البعض لإشارة الفوز إلى غياب الديموقراطية في اليونان بالقياس على أن السياسة التي سيسير عليها يمليها عليه ويسيطر عليها المقرضون، يتلخص الأمر بالنسبة إلى البعض الآخر في أن حزباً راديكالياً واجه ممارسة السلطة مرة جديدة بخيانة وعوده بالتحول إلى حزب اشتراكي ديموقراطي، وثمة آخرون كرس هذا الاقتراع بالنسبة لهم انتصار «شعبوية معادية للإصلاحات». المعلقون الأسخى يسبغون على تسيبراس حنكة في المناورة أو يقدمونه كاستراتيجي سياسي شيطاني. يجوز هنا التساؤل عن كيفية تحول من كان يُعتبر في الأمس هاوياً وساذجاً أو «غبياً رثاً صغيراً» إلى وحش سياسي ماكر. الأكثر إثارة للفضول في المسألة هذه هو تحول الشركاء الأوروبيين: حزب اليساريين والشخص الأخطر على الديموقراطية أصبحا فجأة ضمانتين للاستقرار وأملاً لأوروبا. الأمر خلاف ذلك: تتعين العودة إلى الواقع، حتى لو صَعُب الاعتراف به. لقد اختار اليونانيون بمعرفة تامة وبأكثرية كبيرة، تسيبراس و «سيريزا». وحكموا أخيراً أن برنامجهما يخفف إلى حد بعيد حتى من وطأة الإجراءات التي تضمنتها المذكرة الثالثة [مع الاتحاد الأوروبي] على الأكثر فقراً. وبالحركة ذاتها، أعاد اليونانيون الطبقة السياسية القديمة إلى اجترار كلامها ورفضوا مساندة الداعين إلى الخروج من منطقة اليورو واتباع سياسة قطيعة مع الاتحاد الأوروبي. ويجوز القول إن بعضاً من الناخبين تعمد تأكيد انضوائه في البرنامج السياسي لسيريزا الذي تحتل موقعاً مركزياً فيه مشاركة المنظمات المحلية بالعمل مع البرلمان وتفضيل مبادرات التضامن والمبادرات البديلة. ما من شك في أن حزباً ينخرط في إحياء الديموقراطية على نحو أكثر مباشرة لا ينتمي إلى ما اعتدنا اعتباره تحدياً سياسياً كبيراً أو ما يهم المعلقين. لكن، ما الذي يبرر هذا الموقف فيما انغمس المواطنون اليونانيون منذ 9 أشهر في جدال عام لا ينقطع شهد خلالها 3 اقتراعات عامة جرى أثناءها تفحص مشكلة الدين من كل الزوايا؟ من القادر جدياً على الاعتقاد أن اليونانيين سيفاجأون ببدء تطبيق إجراءات التقشف التي جرى التصويت عليها في 13 تموز (يوليو) الماضي؟ ولماذا لا يعارض الذين يبدون الأسف للمعاناة التي ستنزلها «سيريزا» بالشعب اليوناني، سياسات الخصخصة ذاتها التي تعم أوروبا ويدينون البؤس الذي تولده؟ يعسر دائماً تفكيك رموز الانتخابات. ذلك أن الاقتراع هو عمل تتبلور فيه العواطف والآمال والمخاوف والإمكانات. وظن العلم السياسي قبل أمد بعيد أنه تمكن من فك ألغاز هذا الفعل – وتوقع سلوك الناخبين – انطلاقاً من معطيات موضوعية متغيرة (الوضع والجنس والعمر والمهنة والدين الخ). لكن العلم السياسي يعترف الآن بازدياد صعوبة التكهن بمخارج التصويت وانعدام تلك القدرة على التكهن بسبب استعصاء السياسة وانحدار المؤسسات واثر استطلاعات الرأي والخراب الناجم عن الازمة الاقتصادية. على هذه الفرضيات، يضيف الاقتراع في اليونان فرضية إضافية: ماذا لو عكس الفعل الانتخابي حقيقة أن طريقة التصويت هي التي تغيرت بتأثير تغيير صلة المواطن بالشأن السياسي؟ وينبغي فهم كيف تشكلت العواطف والآمال والمخاوف والإمكانات وكيف اندمجت في اللحظة التي وجب فيها إنزال ورقة التصويت في صندوق الاقتراع، وبالتالي الأخذ على محمل الجد الأسباب (حتى المتناقض منها) التي جعلت الناخبين يدلون بأصواتهم معتقدين أن لذلك أهمية وانهم يفضلون عدم الوقوف إلى جانب من يعتبرهم أدوات في لعبة خداع. وعوضاً عن تمرير الوقت في التقليل من شأن نجاحات «سيريزا» يبدو من الأفضل الانكباب على الأسئلة السياسية التي يطرحها اقتراع اليونانيين.