الأحداث المتسارعة المتعلقة بالأزمة السورية أربكت حسابات بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية. الأيام الستة التي فصلت بين الزيارة السريعة التي قام بها نتنياهو لموسكو ولقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 21 سبتمبر (أيلول) الفائت، وبين يوم الثامن والعشرين من الشهر ذاته، يوم لقاء بوتين مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما وإلقاء كل من الرئيسين الروسي والأمريكي كلمتيهما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة شهدت تطورات شديدة الأهمية على صعيد الموقفين الروسي والأمريكي بصفة خاصة، إلى جانب تطورات أخرى مهمة في مواقف الدول الأوروبية وعلى الأخص ألمانيا. هذه التطورات جاءت على غير هوى ما كان يأمله نتنياهو عندما ذهب إلى موسكو وعاد بعد لقائه مع الرئيس بوتين, اذ كان يتصور أنه قد حصل على الأمان الكامل ل إسرائيل، وأن التحركات العسكرية الروسية الجديدة في سوريا لن تؤثر سلبياً على توازن القوى الإقليمي الذي تتصور إسرائيل أنه يعمل لصالحها أو أنه، على الأقل، لن يمثل تهديداً للأمن وللإستراتيجية العسكرية والسياسية الإسرائيلية نحو سوريا. عندما سارع نتنياهو بالسفر إلى موسكو عقب التأكد من وجود تحركات عسكرية روسية في سوريا وأن موسكو تعمل لفرض وجود عسكري قوي لها داخل سوريا كان هاجسه هو كيف ستؤثر هذه التطورات في مصالح إسرائيل في سوريا، وكيف يمكن لإسرائيل أن تفرض نفسها لاعباً معترفاً به في الحلول المطروحة للأزمة السورية بحيث تؤمن مصالحها في هذه الحلول. حسب تصورات مصادر إسرائيلية عدة أثارت الخطوات العسكرية الروسية قلقاً في تل أبيب من منظور أنها تنسجم مع الأهداف الإيرانية بالهيمنة على المنطقة وتقوية حزب الله وتشجيعه على تحويل هضبة الجولان إلى قاعدة لإطلاق الصواريخ على إسرائيل. ونقل على لسان العميد إيلي بن مئير مدير قسم البحوث في شعبة الاستخبارات العسكرية أن زيادة الوجود الروسي في سوريا جاءت بدعوة من إيران، وهدفه ليس الحفاظ على نظام بشار الأسد فقط، بل إعطاء شرعية للوجود الإيراني بهدف تحويل سوريا إلى نقطة انطلاق للتنظيمات المسلحة والإرهابية. كما أوصى معهد الأمن القومي في تل أبيب نتنياهو بسرعة التوجه إلى موسكو للتعرف إلى حقيقة النوايا الروسية من متطلبات الأمن الإسرائيلي، وبالذات احتمالات منع إسرائيل من حرية العمل في سوريا. هذه المخاوف لم تأت من فراغ، ولكنها جاءت نتيجة تراكم معلومات وتحركات بين روسيا وأطراف إقليمية على رأسها إيران، وبالذات في ضوء الزيارة المفاجئة للجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني لموسكو باعتباره المبعوث العسكري الخاص للمرشد الأعلى الإيراني على خامنئي، وما أعقب هذه الزيارة السرية من مشاورات واجتماعات سرية أخرى شاركت فيها وفود من الأطقم العسكرية الاستراتيجية في روسيا وإيران وسوريا والعراق، قبل أن تتطور إلى ما يمكن اعتباره صيغة لتحالف جديد لمواجهة الإرهاب في الشرق الأوسط، وهو التحالف الذي أعلنت عنه روسيا فيما بعد وعلى لسان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف تحت اسم مركز بغداد لتبادل المعلومات الاستخباراتية بين الدول الأربع، والذي يمكن أن يكون الأساس لتحالف دولي واسع لمكافحة تنظيم (داعش). كانت هذه هي حسابات نتنياهو وتخوفاته التي دفعته للتعجيل بالسفر إلى موسكو ولقاء الرئيس بوتين في محاولة لتأمين المصالح الإسرائيلية ومنع أي تداعيات سلبية على هذه المصالح من جراء التحركات العسكرية والمبادرات السياسية الروسية الجديدة بخصوص الأزمة السورية، وعاد وهو مطمئن بأن البلدين سينسقان أعمالهما العسكرية في سوريا لتجنب تبادل إطلاق النار بشكل غير مقصود. ما قاله نتنياهو ليس كل ما أراده أو كل ما كان يخطط له، وبالذات أن يفرض مبكراً مكاناً لدور إسرائيلي في تخطيط مستقبل سوريا، ومنع أي تحالف روسي مع سوريا يعيد تمكين عودة سوريا كمصدر للتهديد بالنسبة ل إسرائيل، ولعل هذا ما يمكن فهمه من التصريحات التي أدلى بها الرئيس بوتين والتي كشف فيها، وإن كان بشكل غير مباشر، النوايا الحقيقية التي تصارح بها نتنياهو معه، فقد أكد بوتين استحالة أن تقوم سوريا بمهاجمة إسرائيل، وأوضح أن سوريا ليست في حاجة إلى مواجهة وفتح جبهة ثانية معإسرائيل. إنها مشغولة أكثر بتأمين وجودها كدولة. الطمأنة التي عاد بها نتنياهو من موسكو تبددت في ضوء العديد من التطورات المهمة أبرزها تلك المكاشفة الروسية - الأمريكية حول جدية الدور الروسي في سوريا، والإقرار الأمريكي بأن التعزيزات العسكرية الروسية في سوريا غير سلبية، وبعد تأكيد روسيا جدية التنسيق مع إيران بخصوص حل الأزمة السورية والحرب على داعش، إضافة إلى الإصرار الروسي، وعلى لسان بوتين في لقائه مع الرئيس الأمريكي أوباما على أن الحرب على داعش تستلزم التعاون مع الرئيس السوري بشار الأسد، واعتباره أن عدم التعاون مع الرئيس السوري خطأ جسيم. ففي أعقاب انتهاء قمة بوتين - أوباما في نيويورك يوم 28 سبتمبر/ أيلول الفائت قدم سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي مكاشفة شديدة الوضوح في حديث مع قناة روسيا اليوم أكد فيها أن موسكو لن تسمح بتفكك سوريا، وأن موسكو وواشنطن اتفقتا على أن هدفنا هو الانتصار على (داعش) ومنعه من إنشاء الدولة التي يخطط لإقامتها على مساحة شاسعة، وأن الرئيس بوتين أوضح لنظيره الأمريكي أن تشكيل قيادة موحدة للقوات المناهضة لتنظيم (داعش) أمر غير واقعي ما يعني أن روسيا تفضل العمل بشكل مستقل عن التحالف الذي تقوده واشنطن. محصلة تلك التطورات لخّصتها مجلة تايم الأمريكية يوم الثلاثاء 29 سبتمبر/ أيلول الفائت بالقول إن الرئيس الروسي بوتين انتزع زمام المبادرة من نظيره الأمريكي باراك أوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مشيرة إلى أن روسيا باغتت الولايات المتحدة بزيادة تواجدها العسكري في سوريا. واقع جديد لتوازن القوى الدولي والإقليمي نجح بوتين في أن يفرضه على الشرق الأوسط ابتداءً من سوريا، وهو واقع لإيران دور أساسي فيه، فضلاً عن قناعات أخذت تتأكد حول فرص لبقاء بشار الأسد في سوريا ولو لمرحلة انتقالية، وهو واقع لا ترضى عنه إسرائيل ولا يرضي غرور نتنياهو ويؤكد مجدداً فشل خياراته ورهاناته السياسية في التعامل مع الأزمات والتحديات التي تواجه الكيان الصهيوني.