اعتلى امـرؤ القيس إحدى الهضاب في وقت الأصيل وأرسل بصره نحو الأفق الممتد أمامه وقد تاقت نفسه إلى الزعامة والمجد والقيادة والريادة، ثم أنشد قائلا: ولو أنما أسعى لأدنى معيشة كفاني ــ ولم أطلب ــ قليل من المال ولكنمـا أسعى لمجـد مؤثـل وقـد يـدرك الـمـجـد المؤثـل أمثـالي. والبيتان من شواهد النحو وشوارد الشعر وقد عاشت يرددها جيل بين جيل ما يزيد على ألف وخمسمائة عام، وجاءت كلمة «قليل» في عجز البيت الأول مرفوعة لأنها فاعل لما قبلها أي كفاني قليل من المال والمفعول به هنا ياء المتكلم في كفاني والنون للوقاية. وقد اضطررت لهذا الشرح حتى لا يظن قارئ أن كلمة قليل يجب أن تكون منصوبة لأنها مفعول به لعبارة ــ لم أطلب ــ لأن هذه العبارة هنا جملة معترضة بين كفاني وهي فعل ومفعول به وبين قليل وهو الفاعل، وفي البيت الثاني أكد امرؤ القيس سعيه لتسنم قمم المجد المؤثل لأنه وريثه عن آبائه وأجداده، ولكنه أراد رسم خط رجعة فيما لو لم يستطع من خلال سعيه بلوغ ذلك المجد فاستدرك قائلا: «وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي» لأن «قد» إذا جاءت مع الفعل المضارع فإنها تفيد معنى التقليل أي أنه قد يدرك المجد وقد لا يدركه، أما إذا جاءت مع الفعل الماضي فهي تفيد التحقيق كما في قوله عز وجل «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله» .. الآية. لقد حاول هذا الشاب البدوي أن يصلح من شأن نفسه وأن يدع حياة المجون وأن يلحق بقومه ليثأر لمقتل أبيه، ولكنه لم يشأ أن يكون ذلك على الفور بل صمم أن يظل في مجونه حتى آخر قطرة، فقال عبارته الشهيرة الخالدة: اليوم خمـر وغـدا أمـر!. ولكن يبدو أنه وصل متأخرا ووجد أعداءه قد استعدوا له ولم يعمل بما قاله أحد أحفاده بعد عقود من اغتياله «بالسم الهاري» لأن ذلك الحفيد قال: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تـترددا. وفي معظم صور الحياة وعلى مـر التاريخ والأزمان فإن الفرص لا تنتظر كثيرا من تمر به والتأني يجب أن يكون بمقدار لا أن يتحول إلى تـردد وفقدان للثقة بالنفس، وإذا فات الفوت فإنه لا ينفع الصوت!.