بين الهويّة الضيقة والهويّة المتسعة تقع عصبيّة ابن خلدون الذي لم يتوان في وصف الهويّة الضيقة بالتوحش والتعصّب.... لا يختار الإنسان هويّته، فهو يُولد ليجد نفسه في أحضان بيئةٍ ولغةٍ ودينٍ وعرقٍ محدّدٍ، وهذه البيئة تفرض حدودها الصارمة على مجموعتها البشرية، وكلما طوّقت المجموعة البشرية نفسها بالعزلة وبالاستيحاش من الأجنبي، تعصّب أفرادها بالداخل لبعضهم البعض. أما الهوية المتسعة، والتى ألَفت قبول الآخر، فإن ابن خلدون يختار لها صفة الاستئناس الذي يفقدها صفة التعصّب حتى لا يكاد يحصل، بل على العكس هنا حيث يكون الاستيحاش للتعصب، فيبدو مجتمعاً مختلفاً أشد الاختلاف عن مجتمع الهويّات الضيقة.. هذا كلام قديم، فابن خلدون عاش في الفترة من 1332 1406-، واعتُبر المؤسس الأول لعلم الاجتماع، حيث طرح نظريته في العصبية والسلطة في الحضر وعند البدو، وشهد لهُ علماء الغرب بعبقريته ودقته فاحتضنوا آراءه، وبنوا عليها، وتجاوزوها، وبقى اسمهُ مُكرّماً في محافلهم، ونحن نصفّق لهم ونفتخر بنجاحاتهم!! تُوفي ابن خلدون في القرن الخامس عشر، وتوقفنا نحن أيضا في ذلك الزمن، نعم توقّف العقل والوجدان العربي، وكرّسنا الانغلاق ضمن هويتنا، وحين التفتنا، وجدنا أن الزمن قد تجاوزنا.. لم ينتظرنا الزمن!! وها نحنُ الآن عالة على الحضارة، غير مشاركين في تطوّرها، وأكثر الشعوب استهلاكا لها، فالعقول فارغة اللهم إلاّ من إشكالات النصوص، وزخم الطقوس والارواح، تهوى الاصنام، وتجيد صنعها وتقديسها....كل ذلك على حساب إنسانيتنا، فلا يزال الإنسان في بلاد العرب لا قيمة له إلا بأصله الوهمي، وأمواله التي لا علاقة لها بذاته، و....ها نحن نشهد على حياتنا، حيث وعَينا للدنيا، والبحرين تعجّ بالجالية الآسيوية التي استُقدمت كأيد عاملة لتنفيذ مشاريع البنية التحتية منذ فورة ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات وحتى يومنا هذا، ولا زلنا نحن على ذات المنوال في علاقتنا مع أفراد هذه الجالية، حيث نعاملهم بكل استهجانٍ واستخفافٍ، ومثل هذا السلوك يكشفُ عن انحدار مستوى الاخلاق، وعن التعالي والجهل... يكشفُ جُرحنا الذي نحمله للأجيال، وهو تخلّفنا، وتصنيفنا بأننا ننتمي لدول العالم الثالث، حيث أن الحضارة الانسانية التي تخلّفنا عنها قد تجاوزت هذه المرحلة إلى مرحلة التعايش وقبول الآخر دون شرطٍ أو قيدٍ، ودون قيمةٍ أخرى سوى كونُهُ إنساناً، فهو بذلك يستحق التقدير والاحترام والحب ويستحق الامتنان أيضا.. لأنه ساهم في بناء نهضتنا العمرانية. يعرض الشاب رهيف الحسّ، يوسف مدني، على حسابه في اليوتيوب فيلماً قصيراً بعنوان بيّا بحريني، ينمّ هذا العمل عن مدى وعي هذا الشاب ورحابة إنسانيته، يعبّر في الفيلم عن ألَمه لما تعانيه الجالية الهندية التي تعمل في محلات المواد الاستهلاكية من سوء معاملة الزبائن لها، فعمدَ إلى خطوةٍ جريئةٍ في فيلمة المقتضب، حيث أخذ يؤدِّي بنفسه دور ذلك العامل الآسيوي، وإذا به يتفاجأ من الزبائن البحرينيين الذي أبدوا احترامهم للغترة والعقال أكثر من احترامهم للإنسان نفسه، ويا للمفارقة المخجلة! لقد رفض الزبائن أن يكون البيّا بحرينياً.. من ناحيتي، سأفترض أمراً واحداً، لوّ أن ذاك الآسيوي هو فيلسوف متواضع، يمتلك النظريات والافكار، إلاّ أنهُ لا يجد قُوته اليومي إلا من خلال بيع المواد الاستهلاكية، ولو أن المتشح بالغترة والعقال شاب شحيح العلم والمعرفة، فارغ العقل والقلب، ونحن على ما نحن عليه من الحكم علي الآخرين وتصنيفهم، فأيّ توصيفٍ نستحقّ نحن يا تُرى؟ لقد حصل فيلم يوسف مدني على 7K، أي على أكثر من 7 آلاف معجب، مقابل 227 شخصاً فقط من غير المعجبين بالفيلم، وهذه الأرقام أيضاً لا تخلو من الدلالة، كونها تنُمّ على مدى الاستئناس والاستيحاش. كُل الاحترام والتقدير لبريق الاستئناس فيك، يوسف مدني، وفي أصدقائك ومحبِّيك. لقد صار عنوان الحضارة التعايش... فهل نحن كعربٍ جاهزون له؟!