عرف البحرينيون، الشيخ حميد بن الشيخ إبراهيم المبارك، قاضياً وعالم دين وخطيباً ومفكراً. وهو أيضاً سليل عائلة المبارك ووريث ثقلها الديني، الذي ظل متنقلاً بين منبره، ونقده الحثيث للخطاب الديني التقليدي، وتفضيله خيار العزلة، حيث يقيم على الساحل الغربي في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية منذ مغادرته البحرين في العام 2009. التنقلات التي لم تستقر بعد بسبب ما يسميه المبارك «طول الطريق»، أثارت ولاتزال، جدلاً حول: شخصيته، أفكاره، وأدواره، وسط غموض عام هو سيد الموقف، ووسط أنباء تتردد ليفصح بعضها عن ممارسته من أميركا، أدواراً دينية محددة، حتى بعد خلعه العمامة.العودة لاتزال خياراً مؤجلاً... والجلباب الديني لم يعد مهيمناًحميد المبارك... تنقلات «استكشاف الذات» بين المنبر والحداثة وفضاءات «العزلة» الوسط - محمد العلوي عرف البحرينيون، الشيخ حميد بن الشيخ إبراهيم المبارك، كقاضٍ وعالم دين وخطيب ومفكر. وهو أيضاً سليل عائلة المبارك ووريث ثقلها الديني، الذي ظل متنقلاً بين منبره، وبين نقده الحثيث للخطاب الديني التقليدي، وبين تفضيله خيار العزلة، حيث يقيم على الساحل الغربي في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية منذ مغادرته البحرين في العام 2009. التنقلات التي لم تستقر بعد بسبب ما يسميه المبارك «طول الطريق»، أثارت ولاتزال، جدلاً حول: شخصيته، أفكاره، وأدواره، وسط غموض عام هو سيد الموقف، ووسط أنباء تتردد ليفصح بعضها عن ممارسته من أميركا، أدواراً دينية محددة، حتى بعد خلعه العمامة. «الوسط»، لملمت شتات الأحداث والتصريحات، في محاولة منها لمواجهة شح المعلومات وفك شفرة الشيخ/ الدكتور، الثائر على الانتماءات الفرعية والممانع للعودة في الوقت الحالي، رغم المحاولات الحثيثة للقريبين والمقربين. تموضع خاص رغم تناغمه مع مواقف دينية مفصلية، إلا أن المبارك بدا حريصاً على تموضعه الخاص، محوره التشبث بالقناعات التي أفرزت «اختلافاً في وجهات النظر»، وانتهت بتبنيه مواقف مختلفة، توجها بقبوله عضوية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ودخوله سلك القضاء بدفاع مستميت. وكان اسم المبارك حاضراً في البيان التاريخي الصادر في (19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005)، والذي حدد بوصلة علماء الدين الشيعة تجاه قانون الأحوال الشخصية، الرافضة لإصدار القانون قبل توفير ضمانات عدم المساس به لاحقاً وتغيير المذهب الفقهي من خلال الآليات الرسمية. لكنه ظل صاحب مواقف مختلفة، تموضع لها باستمرار، حتى انتهى به المطاف للعزلة الاختيارية، التي يطل من خلالها عبر تغريدات يطلقها عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، لتؤشر على المسار المختلف للمبارك؛ حيث اغترافه من التصوف تارة، ومن الليبرالية تارة، ومن النقد الحضاري لمسلمي الوقت الحاضر تارة أخرى. فلسفة الصدام بلا مواجهة حكاية المبارك بدءاً من عودته للبحرين قبيل فترة التصويت على ميثاق العمل الوطني، قادماً من إيران، حيث دراسته الدينية لنحو 15 عاماً والتي بلغ فيها مراتب متقدمة، إذ يؤكد البعض بلوغها مرحلة «الاجتهاد»، حبلى بالفصول والأحداث والمواقف. لكن كل ذلك يستقر ليرسم ملامح شخصية ساعية للجمع بين الأضداد، عنوانها «الصدام على مستوى الفكر دون مواجهة»، في إشارة لأطروحاته الناقدة وحتى قراراته، ما هيأ له «الوقوف في المنتصف»، والبحث عبر ذلك عن مد جسور التواصل بين جوانب مختلفة. ففي العام 2005، جددت عضويته في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، المؤسسة التي كانت ولاتزال محل اعتراض من عدد غير قليل من نظراء المبارك. قراره هذا، جاء مشفوعاً بتوضيحات لم تخل من «توازن»، أشار فيها إلى تفهمه موقف الشخصيات التي نأت بنفسها عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، قبل أن يستدرك ليعبر عن قناعاته المختلفة «لا يصح الجلوس بعيداً وخلق تصورات مثالية، فعصرنا عصر الأخذ بالممكن». النقد... أرضية التحول ليس معلوماً بعد الزمان المحدد لولادة نقطة التحول في مشوار الشيخ المبارك، فالنتيجة التي جاءت على خلفية تراكمات، توالت على مدى سنوات، لكن الأسلوب الناقد الذي ظل مهيمناً على خطاباته، شكل ما يشبه الأرضية الخصبة للتحول القادم، حتى وصفه عالم الدين السعودي الشيخ حسن الصفار بـ «صاحب الأفكار النقدية الجريئة». ولا يقلل من شأن الحديث عن تحولات المبارك وتنقلاته، النفي الذي قدمه في وقت سابق، تحديداً حين أكد عدم امتلاكه مشروعاً جديداً، وإشارته إلى أن ما يطرحه «لا يزيد على كونه تقارير لآراء قيلت سابقاً وتداولها الفقهاء والمفكرون الدينيون قديماً وحديثاً». وقتها، كان المبارك يرد على من اعتبر أطروحاته هذه، مشروعاً في قبال مشروع، حيث عقب على ذلك بالقول «أحاول طرح ما لدي بطريقة مختلفة تكون أقرب إلى لغة العصر ليسهل فهمها وتناولها للقارئ المعاصر، كما أنها لا تشكل محاولات للخروج عن مساحة الاجتهاد الديني، بالمعنى الذي قد تنصرف إليه بعض الأذهان، وذلك لأن لها نظائر في تاريخ الفكر الديني (...)». الفقه الحداثي لم يعد سراً الحديث عن التوجهات «الحداثية» لدى المبارك، وهي التوجهات التي ظلت تختمر لمدة طويلة من الزمن وحوتها مقالات المبارك وكتاباته، حتى استقر به المقام في أميركا، لتنقله هذه الأخيرة الى التحديث والتمدن والتأمل ولو عن بعد. وعلى مدى سنوات، كان لقلم المبارك حضوره في الصحافة المحلية عبر المقالات التي تناول من خلالها مجالات متعددة، شملت الدعوة لتجديد الفكر الديني، ومفاهيم الاعتدال والمواطنة والوحدة الإسلامية والطائفية، إلى جانب المطالبة بتطوير أحكام الأسرة. يقول في أحد مقالاته الذي أثار «كثيراً من التساؤلات» والمنشور في «الوسط» في (15 سبتمبر/ أيلول 2006)، «فهم الشريعة يبدأ بفهم موضوعها وهو الإنسان الفرد أو المجتمع»، منتقداً في هذا الصدد «الاستنباطات الفقهية البعيدة عن تلبية حاجات الإنسان بما هو إنسان، أو بما هو في سياق ثقافي محدد»، ومؤكداً أن ذلك يضطر الإنسان إما الى التنكر لها والطفرة عليها، أو الاحتباس في ظلها بكل ما يعني ذلك من جمود وعقد وشلل في إبداعيته. وفي أحكام الأسرة، العنوان الذي لايزال يحمل الكثير من الجدل، يظهر المبارك في بعض كتاباته، اقتداءه بأطروحات المرجع الديني السيدمحمد باقر الصدر، تحديداً فيما يرتبط بقناعته بالأصل الفقهي المشهور والخاص بتغير الحكم تبعاً لتغير الموضوع، وذلك فيما يرتبط بأحكام الرجل والمرأة والعلاقة بينهما، ليخلص إلى القول إن تغير الحكم بتغير الموضوع ليس من قبيل نسخ الشريعة ولا استبدالها بل هو تغير من داخلها وفي نطاقها. أما فكرياً، فإن قائمة من استوقف المبارك تجاربهم تطول، من بينهم: فيلسوف البحرين الشيخ ميثم البحراني، وعالم الدين اللبناني الشيخ محمد مهدي شمس الدين، حيث دعواه لتدبر أطروحات المرحوم شمس الدين، وبشكل خاص وصاياه للشيعة بالاندماج الكامل في محيطهم الوطني والقومي والإسلامي والالتزام بحفظ النظام العام والسلم الأهلي في أوطانهم والابتعاد عن أي سلوك سلبي انكفائي أو هجومي. التجديد من خلال الخطابة مارس المبارك الخطابة الحسينية، وارتقى منابرها حتى اعتبر أحد أبرز أسمائها، لكن سهام نقده، وسعيه الدؤوب للتحديث، ظلا حاضرين هنا أيضاً. حول ذلك، يتساءل المبارك في مقدمة كتاب (الخطابة في دراسة نوعية شاملة لآية الله الكرباسي): «هل إن عطاء المنبر الحسيني وصل إلى مستوى الطموح؟ ثم هل يتناسب عطاؤه مع مقدار ما ينفق لأجله من أموال ويصرف من طاقات؟». لا يكتفي المبارك بذلك، وفي العمق يتطرق إلى جدلية أجور الخطباء، محاولاً التوفيق بين تبيانه عدم معارضته ذلك، وبين قوله إن «العمل التطوعي أكثر مصداقية وتأثيراً في النفوس من العمل الذي يطلب من ورائه العوض المادي ويتحول فيه العامل إلى أجير». بجانب كل ذلك، لا يجد المبارك حرجاً من محاولة تعرية الواقع واقتحام المناطق الصعبة، تحديداً حين يقول إن «الكثير من المنابر الحسينية اليوم، وكما هو شاهد محسوس، هي عبارة عن مكررات يعاد فيها ما يقال مرة بعد أخرى، حتى أصبح المستمع يعلم مسبقاً ماذا سيقول الخطيب في كل مناسبة (...)، وحتى لو حاول الخطيب أن يخرج من المحفوظ المكرر فإنه يبقى في مستوى الضفاف أو قريباً من ذلك، ولا يجرؤ أن يدنو من العمق، إما لعدم ثقته في قدرته على خوض ذاك العباب، أو لخوفه ممن هو أعلى منه شأناً وأغزر منه علماً إذا وقع في زلة لسان أو لم يسعفه التعبير أو خالف السائد المتعارف شيئاً قليلاً». التغريد خارج السرب مع حلول يونيو/ حزيران 2006، كانت علاقة المبارك بأميركا، على موعد مع انعطافة مؤثرة. لحظتها كان المبارك ضمن الوفد الرسمي الزائر لواشنطن بالتنسيق بين وزارة الشئون الإسلامية والسفارة الأميركية، وذلك من أجل التعرف على طريقة التفكير لدى الفاعلين الدينيين في أميركا، وكيف ينظرون إلى الإسلام والمسلمين، وكذلك المساهمة في التعريف بالإسلام، وكيف ينظر المسلمون إلى الغرب في بعديه الحضاري والديني. شكلت هذه الزيارة، نافذة لإطلالة المبارك على التجربة الغربية، والتي نالت نصيباً وافراً من ثنائه. يعلق عليها ممتدحاً «التقدم الغربي لا ينحصر بالتكنولوجيا، بل يشمل القيم والأخلاق أيضاً، ما عدا الحجاب واللحية». وفي إضافة قد تفسر بعضاً من أسرار جاذبية هذه التجربة لدى المبارك، يقول «كل من يزور أميركا لابد أن يلحظ أن المجتمع الأميركي يتميز بخصائص إيجابية منها إبراز المشاعر والأفكار والتمتع بقدر واسع من الحرية الفكرية والسلوكية بعيداً عن الضغط الرسمي والمجتمع». تفصيلاً لذلك، كان للمبارك مقالات صحافية عبر أجزاء، عنونها بـ «عشرة أيام في أميركا... الدين والحياة»، تناول فيها اطلاعه على تجارب تتعلق بعناوين الدين والدولة، من بين ذلك زيارة للمركز العالمي للأديان والدبلوماسية بواشنطن، الهادف إلى «إدخال الدين جزءاً من الحل للمشكلات الحاصلة في المجتمعات في قبال الدعاة الى الفصل بين الدين والسياسة وهم الأكثرية في أميركا وبقية دول الغرب». نوافذ الزيارة ساهمت بموازاة ذلك، في فتح آفاق ترتبط بثنائية «الدين والحداثة» وطبيعة العلاقة بينهما. حول ذلك يقول المبارك بعد زيارة للمعهد الأميركي للسلام في واشنطن «نشر المركز عدة أبحاث وتقارير عن الدين ومثال على ذلك التقرير الصادر بعنوان (الاجتهاد: إعادة تفسير مبادئ الإسلام للقرن الحادي والعشرين) وهو خلاصة لورشة عمل نظمها المعهد بالتعاون مع مركز دراسة الإسلام والديمقراطية، وحاولت هذه الورشة معالجة موضوعات مهمة من قبيل اعتقاد الكثير من المسلمين بوجود تضاد حتمي بين الإسلام والحداثة، وأن على المسلمين أن يختاروا بينهما». ويدعو المبارك ضمن ما يدعو، إلى استثارة الجوانب الإنسانية في الدين، وصولاً لإعلاء الفقه الأخلاقي على حساب الاعتقادات، والذي يراه قادراً على إحداث بصيص أمل ينهي حتمية صراع الحضارات. «تويتر» يجلّي الغموض في الإطار ذاته، تكشف أحدث التغريدات التي يبثها المبارك بشكل مكثف عبر حسابه الخاص على «تويتر»، عن أطروحات تتجاوز الدور التقليدي لمن كان يلبس العمامة. تصدر ذلك قوله في (7 يوليو/ تموز 2015): «تجربة التاريخ الإسلامي وغيره، دليل على ضرورة الفصل بين الدين والدولة»، وزاد عليه بالقول «أصبح واضحاً ارتباط حرية الأديان وتساوي الناس في الحقوق بالسلم الاجتماعي». لا يتوقف المبارك عند هذا الحد، حيث يتبنى في تغريداته، العبارة الشهيرة «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، في تناغم بيّن مع ما عرف عنه من إعجاب بأفكار الليبرالي الكويتي عبدالعزيز القناعي، المعروف بآرائه الناقدة لمسار المتدينين وتحويلهم الحياة الى الاستبداد والتوحش. المبارك وفي محاولاته للتحرر من الانتماءات الفرعية، «تجرأ» ليطالب المسلمين من جميع الطوائف بالمراجعة الفكرية الشاملة، حتى قال في (30 مايو/ أيار 2015)، «الحل الوحيد هو المراجعة الفكرية الشاملة، ولا أمل مادام كل طائفة ترى أنها تلقت مذهبها من جبرئيل مباشرة وعلى الآخرين التوبة»، في تعبير صريح عن رؤيته التي يتبناها والتي ظل يصدح بها في كل مواقعه. «تويتر المبارك»، مثل، علاوة على كل ذلك، محطة للكشف عن حالة التصوف الفلسفي أحياناً اعتبر أن ذلك شأن شخصي، وأنه يفضل «البقاء وحيداً على أن يكون مع جمع لا ينتمي إليه». ثم يعطي تعريفاً للسعادة «إذا استيقظت من نومك فرأيت نفسك بحالة الاطمئنان والرضا وأن لديك رغبة في الشكر، فأنت سعيد». وعبر مجموعة تساؤلات، يؤكد المبارك إصراره على المضي قدماً في هذه الحالة، غير عابئ بشعور التعب الذي أقر به، وبـ «خسارة كل العالم، مادمت قد كسبت نفسك»، كما تقول إحدى تغريداته، والتي يعضدها بأخرى، ينوه فيها إلى طول الطريق وامتلائه بالأخطار، قبل أن يستدرك مؤكداً قناعته وثقته بالدليل. انتقل المبارك من البحرين إلى أميركا، واستبدل «المنبر» بـ «تويتر»، ولكنه يبقى كما تحدث عنه شخص يعرفه عن قرب، قائلاً «إنه حميد المبارك يستكشف ذاته».