يمر العالم العربي اليوم بمرحلة تاريخية حرجة، ويعيش في دوامات من الفوضى السياسية والصراعات الفكرية حولت الكثير من دوله للأسف إلى دولٍ فاشلة بكل ما يعنيه هذا المصطلح السياسي المعبر عن حالة الفوضى تلك.. إلا أن المرحلة المقبلة وما تحمله من تحديات تبدو أكبر بكثير مما نحن عليه الآن، مما يتطلب منا التصدي لهذه التحديات المهددة لكياننا بعقلانية وحزم وذلك من خلال إخضاع الكثير من المفاهيم السائدة للدراسة الدقيقة والشاملة، وتمثل «قضية الشرعية» الركيزة الأساسية لهذه الدراسة، ولا شك أن هناك الكثير من القضايا التي ينبغي أن تخضع للدراسة وتسليط الضوء عليها، إلا أن قضية الشرعية هي الأهم كونها هي الأساس لكل قضية أخرى والمصدر لها، ولندرك تمام الإدراك أننا - كسعوديين - ونحن نواجه هذه الفوضى حولنا، لن نُترك وشأننا لأن هناك من يتمنى فشلنا ويترصد أخطاءنا ويستهدف شبابنا ويحلم بتغييب عقولنا، لتجريدنا من شرعيتنا الإسلامية ومن ثم سقوطنا. إن الحملات المعادية والمشككة في الشرعية الإسلامية للدولة السعودية، هي حملات وتوجهات عدائية ليست بخافية على الجميع وليست بجديدة فهي قديمة قدم الدولة السعودية نفسها إلا أنها تبدل جلدها وأقنعتها وأساليبها بين الفينة والأخرى بحسب كل مرحلة والتاريخ شاهد على ذلك. إن الذين يعادون ويشككون في الشرعية الإسلامية للدولة السعودية، لديهم شرعيات أخرى يحلمون في أن تحل محل تلك الشرعية، ومن الحكمة أن نساير أحلامهم ونناقشها بهدوء وموضوعية في محاولة لكشف القصور لديهم وبالتالي إسقاط تلك البدائل بالحجة والمنطق. ومن هذه الشرعيات: 1 - شرعيات إسلامية بديلة: نموذج الإسلام الثوري ويمثله ملالي إيران من المتطرفين الشيعة، والجماعات السنية المسيسة المتطرفة كـ«القاعدة» و«داعش» وغيرهم، الذين أخذوا على عاتقهم أن يبدلوا بالشرعية الإسلامية للدولة السعودية شرعيتهم الإسلامية المزعومة، إلا أن الأحداث والأيام أثبتت يومًا بعد يوم أن هذين النموذجين هما أبعد ما يكونان عن الإسلام الصحيح الجامع الموحد للأمة، فكلاهما وظف الإسلام توظيفًا منحرفًا للوصول إلى أهدافه السياسية الطائفية والعنصرية البغيضة. 2 - شرعية التنمية: يرى المروجون لهذه الشرعية أن النظام يصبح شرعيا فقط إذا ما نجح في تنمية الموارد، كما أن شرعية النظام في نظرهم تسقط بمجرد فشله في نجاح التنمية. إلا أنه بالمنطق التنموي يتضح أن هذه الشرعية ضمنية لا أساسية بمعنى أن من وظائف كل نظام سياسي أن ينهض بما يحسن مستويات مواطنيه، كما أن لكل نظام سياسي شرعية أساسية تسبق شرعية النجاح في التنمية أيًا كان اسم هذه الشرعية وفلسفتها. وليس هذا تقليلا من وظيفة النجاح الإداري والتنموي بوجه عام بل على العكس؛ فإن النجاح التنموي خاصة فيما يتعلق بتوفير السكن والعمل والتعليم والخدمات الصحية المناسبة للمواطنين والإدارة السليمة للموارد يعزز من الشرعية الإسلامية للدولة ويقويها. 3 - الشرعية الديمقراطية: وهي التي ترى أنه لا شرعية لأي نظام حكم إلا من خلال صناديق الاقتراع وعلى النمط الغربي بالتحديد، إلا أن رفض هذا الربط القوي بين الشرعية والديمقراطية بمعناه الغربي يتطلب حجة عملية قوية تتمثل في إقامة واقع فكري وسياسي واجتماعي وقانوني ينال الناس فيه حرياتهم المسؤولة وحقوقهم الواجبة وتحقيق العدل وفقًا لأحكام الشريعة، وهذا ما تسعى الدولة السعودية لتحقيقه منذ نشأتها. 4 - الشرعية الوطنية: مما لا شك فيه أن الوطنية تمثل قيمة كبيرة في تعزيز الولاء والانتماء، ولكن ما هي إلا إطار عام جغرافي وغريزي تاريخي ولا تمثل محتوى فكريًا أو منهجيًا، والإطار العام عادة لا يشبع ولا يكفي بل إن الاقتصار عليه يضطر أصحابه إلى استدعاء أو استيراد مضامين أخرى، والتاريخ شاهد على ذلك، فقد شهدت عدة دول عربية وإسلامية حركات استقلال وطنية بعد استقلالها، إلا أنها وجدت نفسها بلا مضمون لذا اضطرت إلى البحث عن محتوى آخر، فمنها من تبنى الديمقراطية أو الليبرالية ثم اعتنق الاشتراكية، ومنها من توجه إلى القومية فلما وجد أنها فراغ أو شكل بلا مضمون اعتنق الاشتراكية، ومنها من اتجه للاشتراكية مباشرة ثم هجرها. وهذا التخبط هو من أقوى وأخطر أسباب انتشار فكر الأحزاب والتيارات المتطرفة الدينية وغير الدينية. لذا يمكننا أن نقول إن الأنظمة الخاوية من المحتوى الفكري المعبر عن قيم الأمة ومبادئها مسؤولة إلى حد كبير جدًا عن انتشار الأحزاب الدينية وغير الدينية المتطرفة بشتى أسمائها وأشكالها. ومن الظلم وصف هذه الأنظمة بأنها غير وطنية، بل هي وطنية ولكنها الوطنية الخالية من المضمون العميق الغني المشبع. وبالنظر لمفهوم الإسلام الحق والوطنية الصحيحة، لا يوجد تعارض أو تناقض بينهما، فالوطن هو الوعاء المكاني للمنهج الإسلامي، إذ إن الإسلام لا يطبق في فراغ مكاني مطلق. إننا عندما نتحدث عن الشرعيات الأخرى، فهو من باب إعطاء الفكر مساحة من الحرية، لنثبت وبالأدلة والبراهين أن هذه الشرعيات لا يمكن وبأي حال من الأحوال أن تحل محل الشرعية الإسلامية لدولة كالسعودية مهبط الوحي وحاضنة الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين، ومرجعية مجتمعها إسلامية محافظة.. لقد اتضح من واقع تجربة الدولة السعودية خلال مسيرتها التاريخية الطويلة التي قاربت على الثلاثة قرون أن الشرعية الإسلامية للدولة هي السبب بعد الله في ترسيخ كيان هذه الدولة وأنها سند لها لا سبب ضعف وأزمات كما يروج له البعض. إلا أن إخضاع موضوع الشرعية للدراسة بين فترة وأخرى، مهم جدًا للفهم والبناء عليه لتعزيز شرعية الدولة في وجدان الأجيال المتعاقبة، وليس هذا من باب الشك في الذات إنما من باب التأكيد أن شرعية هذه الدولة مستهدفة في الماضي والحاضر والمستقبل وأن الأحداث التي مر بها العالم العربي والإسلامي في الماضي ويمر بها اليوم قد عززت القناعات لدى السعوديين وأكدت أن الثبات على ما قامت عليه الدولة السعودية (الشرعية الإسلامية) هو الأجدى والأصلح، وأن بعث الوعي والتأكيد من جديد واليقين بالشرعية الإسلامية للدولة هو الهدف الأساسي للدولة في الحاضر والمستقبل لمواجهة الشرعيات التي يروج لها البعض وهذا ما أسس له الملك عبد العزيز وسار عليه أبناؤه من بعده. يقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في خطابه الأول بعد توليه زمام الحكم في السعودية «لقد أسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - وأبناء هذه البلاد دعائم هذه الدولة، وحققوا وحدتها على هدي من التمسك بالشرع الحنيف واتباع سنة خير المرسلين صلى الله عليه وسلم». كما أدرك الملك عبد العزيز وملوك الدولة السعودية من بعده، أن هذه الشرعية تقترن بمسؤوليات جسيمة وواجبات كبرى، وهو ما وضع ويضع على الدولة السعودية مسؤولية ترسيخ هذه الشرعية وتعزيزها بتجديد مرتكزاتها وتوسيع قاعدتها، وقد واجهت قيادة هذه الدولة الكثير من التحديات لتحقيق ذلك وتعددت أساليب تعاملها معها، لكن المهم أنه رغم هذه التحديات استطاعت هذه الدولة إيجاد كيان سياسي اقتصادي واجتماعي متجانس وموحد، وجعلت الجميع يلتزم بقواعد هذه الوحدة الوطنية، مكونة ثقافة موحدة الروح وإن تباينت جوانبها وظواهرها. شرعيتها إسلامية وركيزتها عقيدة صحيحة ومنهج وسطي يؤهلها لمقابلة هذا العصر وتحدياته للتأسيس عليها لاستمرار هذا الكيان وتجدده بما يتلاءم مع متطلبات العصر والانفتاح على العالم، والمسألة ليست في إيجاد البديل عن الثوابت والقيم التي قامت عليها هذه الدولة، وإنما تحقيق القدرة على الاستمرار ومواصلة مشروع الدولة الإسلامي الحضاري وضمان استمراريته في مواجهة تلك الشرعيات البديلة!