بدأت تزداد أخيراً، المطالبات بضرورة مراجعة الخطاب الديني بإخراجه من حالته التي تفرز التطرّف والإرهاب بدلاً من التسامح والدفاع عن القيم الإنسانية. فأي خطاب ديني هنا نريد تجديده؟ فهنا تتعدّد الخطابات، وفقاً للتعاطي، فهناك الخطاب الديني الرسمي الذي تتولاه المؤسسات الدينية التابعة للدولة، في مقابل الخطاب الديني الذي تتولاه هيئات ومنظمات أهلية أخرى، وهي بدورها هنا تتنوّع ما بين جمعيات الإسلام السياسي ومنظماته التي تأخذ الدعوة على رأس خطابها السياسي على شاكلة جماعة "الإخوان المسلمين" والسلفيين أو جمعيات أهلية تهدف إلى الدعوة من دون العمل بالسياسة. وأصبح هذا الخطاب الديني غير الرسمي هو الظاهرة الأبرز على مدار العقود الماضية بتسيّده الساحة، وأيضاً بالمشكلات التي ينتجها في شكل التطرف. وقد ساعده في ذلك أن من يتصدّر لنشره ليس بالضرورة يكون خريج المؤسسة الدينية، فقد يكون مهندساً أو طبيباً أو حتى غير مَكمّل لتعليمه الجامعي، كما شهدنا ذلك في حالة الجماعات الإسلامية وغيرها. فالتنشئة والدراسة داخل المؤسسة الدينية ليستا ميزتين مكتسبتين عند هؤلاء بقدر ما هما مبنيتان على أيديولوجية التنظيم نفسه وأفكاره. وهنا طبيعياً أن يخرج المضمون الديني مشوّهاً نتيجة هذه التنشئة داخله على شاكلة تنظيم الجماعات الإسلامية بمسمياتها المختلفة، التي لا تنشئ غير عقلية معادية للمجتمع والحداثة بقيمها وقوانينها. أما المؤسسات الرسمية التي تتصدّر للخطاب الرسمي، وأبرز نماذجها مؤسسة الأزهر في مصر، فلديها إشكالية في مضمون هذا الخطاب الذي توارثته من دون تجديد وتطوير على مدار قرون متعدّدة، ما يتطلّب التصدّي للموضوع بجدية بوضع استراتيجية بعيدة المدى تأخذ أكثر من بعد. أولها، تطوير التعليم داخل معاهد هذه المؤسسة وكلياتها، في مراحلها الأولية والجامعية، مع البحث عن الآلية التعليمية المناسبة التي تعالج ظاهرة التطرّف، التي بدأت ترتبط أيضاً بخريجي هذه المؤسسة، على عكس ما كان معروفاً عنهم من اعتدال ونهج وسطي. فتتعدّد أسباب ذلك ما بين الإصرار على تدريس المناهج التقليدية، والاختراق الإخواني والسلفي بأيديولوجيّته لطلاب معاهدها في مراحل التعليم ما قبل الجامعي نتيجة لفشل تدريس المضمون الديني المناسب لقضايا الواقع. ثانيا، ضرورة أن يكون هناك إحكام وسيطرة وتوحّد في الخطاب الديني الذي يبثّ يومياً وأسبوعياً في شكل خطبة الجمعة، التي أصبح قائلها يغرّد خارج نطاق قضايا العصر، وباتت بمثابة منابر لبثّ الجهل والتخلّف والتطرّف في العقول أكثر من كونها تحضّ على الفضيلة والقيم الإنسانية داخل المجتمع. فبات هناك ما يشبه الصراع ما بين الرسمي وغير الرسمي على من يسيطر على هذا الشكل من الخطاب من خلال مناسبة طقوس يوم الجمعة. وضرورة مراجعة مضمون ما يقال، ليس لفرض رأي واحد، وإنما لأن هذا المنبر الدعائي هو الذي أخرج كل هذه التنويعات من التطرف، خصوصاً إذا كانت صلاة الجمعة هدفاً للسيطرة والبروز عند الإسلاميين. وعملية الضبط هذه مطلوبة في مجتمعات أصبح فيها التديّن موضة، ليس لتأدية الفرائض وإنما للخطابة والصعود الى المنابر (صراع مكبرات الصوت وقت الخطبة) لبثّ هذه الأفكار لدى كل من أطلق لحيته ولبس الجلباب الأبيض عقب تديّنه فجأة، واكتشافه أنه يجب أن يصلّي ويصوم ويعيش في دور المتديّن. وإذا كان هذا على مستوى الفرد فمن حقه، وإنما الذي ليس من حقه هو أن يخترق المجال الخاص للآخرين ويفرض رؤاه القاصرة من التدين على عقولهم. وهذه ظاهرة قد تجمع عدداً كبيراً من خطباء المساجد للأسف. ثالثاً، التقليل من هذا الاقتحام الديني في تفسير كل شيء في حياة الناس وسلوكياتهم، بخاصة من طريق الفتوى. فباتت – أي الفتوى- إحدى الركائز الأساسية للخطاب الديني، التي تأخذ شكل الافتعال في مناقشة القضايا الدينية، وباتت بمثابة الصندوق المغلق الذي لا يجب ألا يروّج وألا يفتح إلا على غير مسؤولي هذا الخطاب الرسمي. فتدهورت الأمور الى درجة أن الفتاوى الدينية باتت تخرج في شكل مفتعل، لمناسبة ومن دون مناسبة، وفي تقعر للقيم الإنسانية كونها تقرّر واقعاً متعارفاً عليه، سواء في أعمال الخير أو في التحذير من أعمال الشر. فبدلاً من أن تتحوّل إلى أداة لإثراء القيم الإنسانية الموجودة في الخطاب الديني، تحوّلت إلى أداة لهذا التقعر، فتظهر تراجع الخطاب الديني وتخلّفه عندما تقرر حقيقة وواقع ما هو موجود في عقلية البشر وفطرتهم. فأي خطاب ومضمون دينيين نريد تطويرهما وسط هذا الخليط والتدخلات؟ الخطاب الرسمي التقليدي، أم الخطاب المتطرّف للإسلاميين الذين يجمعهم البُعد من الواقع والعيش في جلباب نصوص تقليدية، من دون أن تكون هناك آلية جديدة للاجتهاد لتتناسب مع ظروف العصر؟