يتميز الدكتور محمد حسين هيكل (1888- 1956) في تكوينه الفكري عن غيره من المفكرين المصريين الذين عاصروه بالبيئة الفكرية التي نشأ فيها والتي مكنته من الإلمام باللغتين الإنكليزية والفرنسية وبشكل جعله قادراً على أن يستوعب كلتا الثقافتين وأن يمزج بينهما. كذلك لا ينفصل هذا التكوين عن حالة المخاض الفكري الذي كانت تمر به مصر وموجة التحديث الديني والاجتماعي والسياسي التي قادها رواد مثل الشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول ولطفي السيد وفتحي زغلول. وإذا كان هذا هو الوسط الفكري الذي نشأ فيه محمد حسين هيكل وتأثر به، إلا آن ثمة وسطاً آخر سوف لا يقل تأثيراً وتوجيهاً له وهو البيئة الفرنسية والغربية التي سيتوجه إليها ويقضي فيها ثلاث سنوات 1909-1912 للحصول على الدكتوراه في القانون ويزور خلالها إنكلترا وسويسرا وإيطاليا، وهي السنوات التي قال عنها: «اعترف بأني اعتبر السنوات الثلاث التي أقمتها في صدر شبابي في باريس أسعد أيام حياتي وأعمقها أثراً في تكوين نفسي واتجاه ثقافتي، وإني لذلك أحب باريس وأُخلص الحب وأدين لها بولاء لا تجني عليه الأيام، قد اختلف رأياً مع الفرنسيين في أمر من الأمور، وقد يبلغ هذا الخلاف من نفسي مبلغ الموجدة عليهم، فإذا عدت إلى باريس، بل إذا ذكرت باريس نسيت أن يكون بين أهلها خلاف كما تأسف أنت إذا اختلفت مع أعز حبيب عليك وأحب صديق إليك». أما الحياة الفكرية والثقافية الفرنسية التي تتضح أمام النازل في فرنسا فتفتح أمامه عالماً جديداً لم يجده قط من قبل في تصوره، فإنها تتحقق عند هيكل عندما «يقصد مسارح التمثيل يرى فيها أثر الفكر الإنساني مجسماً متنوعاً كما يرى التفنن في حسن الذوق حين يجيل بصره في صالات التمثيل المزدحمة أثناء هدنات ما بين الفصول بالمتفرجين. ويذهب إلى ملاعب الموسيقى فتأخذ بسمعه نغمات جديدة مملوءة بالحياة والقوة مختلفة جد الاختلاف عن نغمات موسيقانا المستسلمة الشاكية». وفي تأمله للحياة العملية والإنتاجية للفرنسيين ولنظمهم، وعلاقاتهم الاجتماعية ونظم العائلة والقيم التي توجههم نجده يقول «ثم يرى فيما حول ذلك كله المتاجر والمصانع كلها النشاط والحركة، ويحس في كل مخلوق مما على أرض هاته البلاد أنه يحب الحياة حباً حقيقياً ويرى فيها مواضع للفائدة واللذة يمكنه الوصول إليها متى أراد، ولن يكون ذلك بالاستسلام ولا بالطمأنينة للحاضر ولكن بالجد والعمل...». فإذا تعمق شؤون الفرنسيين إلى أكثر من المنظر الظاهر تبدت له «صور وإحساسات وأفكار وأنظمة أكثر أخذاً باللب وأوقع في النفس مما رأى من قبل ذلك، تبدت العائلة وليست هي مجرد القطيع الإنساني لا يجمعه أكثر من الروابط الطبيعية، ولكنها شركة إنسانية أساسها تبادل الإحساس الخالص والزيادة في سعادة الفرد من طريق الاجتماع وخلق الأشياء والقيم عليهم، ويكونون في مستقبلهم رجالاً أحراراً أو سيدات يعرفن معنى الحرية ويقدسن الواجب»، وإلى جانب هذه الأحاسيس، يقف وراءها ويأخذ بيدها فكر دقيق مصقول هو مصدر فلسفة طويلة عريضة لم تترك نقطة من نقط الأخلاق أو العقائد أو الأديان إلا حققتها وحللتها ووصلت فيها إلى مختلف النتائج». وعند هيكل فإن أسلوب العمل والحياة عند الفرنسيين هي فلسفة لا تعرف الاستسلام والتواكل وإنما هي «فلسفة قوية مبناها احترام الجنس الإنساني وكل ما ينتج، لا تعرف تقديس الماضي ولا الخضوع له. بل هي تأخذ كل ذرة من ذراته فتحللها وتبحث عن مصدرها وأهلها وطرق نموها والنتائج التي ثبتت عليها ثم تبحث عن قيمتها وحقها في البقاء فإن لم ترها متفقة مع العقل أو رأتها عقيمة النتيجة طرحتها جانباً». بل إن هيكل في تأمله في متاحف باريس يستخلص دلالتها على القيم التي تحكم وتوجه حياة الفرنسيين، فهو يقول بعد زيارته متحف لوكسمبورغ وكان ذلك في الشهور الأولى لوصوله باريس عام 1909 «وتدل هذه الصور بتنوعها وإطلاق اليد والحرية فيها على تحلل الغربيين من قيود كثيرة لا تزال مقيدة بها النفس الشرقية بما يأخذ اسم الفضيلة والحياء، وكأن هؤلاء الناس يريدون أن يستغلوا كل ذرة مادية نفسية وأخلاقية من ذرات الوجود وما يدخل فيه من إنسان وحيوان وأشياء وأرض ونبات وشجر وماء وسماء وكل ما يمكن أن يجول بالخاطر أو يسرح إليه الخيال. ويظهر أنه على مثال هذه الحرية في الفن ينسج الغرب في كل شيء. والنفس المحاطة من كل جانب بمظاهر الحرية تنشأ وتحيا وتموت حرة والنفس الحرة قديرة على كل شيء - قديرة على المعجزات». نموذج للنهضة هذا الافتتان الواضح بحضارة الغرب ومعالمها ومقوماتها وبخاصة في بداية تعرفه عليها ومعايشته لها، والتي توافقت كذلك مع بدايات تكونيه الثقافي والفكري، هو الذي قاده وأقنعه أن خروج مصر والشرق من أوضاع التخلف مرهون بأن تتخذ من الغرب نموذجاً للنهضة. غير أننا نلاحظ أنه رغم ما تعكسه هذه التجربة المبكرة من انبهار بالغرب والدعوة إلى تبني نموذجه إلا أن التدقيق في ما سطر خلال هذه التجربة يكشف بذور الشك في كمال هذا النموذج وما يحتويه من شرور فنجده يقول عام 1911 «هذه المدينة القوية على ما فيها من فساد وشر يكتسح العالم من أقصاه إلى أقصاه ويعطي لأصحابها من الغلب على غيرهم ما لا يستطيع معه ذلك الغير إلا أن يندمج فيهم ويأخذ مأخذهم، ورغماً عن أملي بأن توجد أمة تأخذ من مدنيتهم بأسباب القوة والدفاع عن نفسها وأفرادها وتذر مجالب الشقاء من مواد الترف المتناهية في الكثرة، فإني ناصح كل أمة لا تستطيع هذا أن تصبغ المدينة الغربية بصبغتها ثم تأخذها إليها». وواضح أن بذور الشك هذه، فضلاً عن عوامل أخرى، هي التي قادته بعد خبرة عشرين عاماً إلى هذه التحولات الفكرية والتي نبهته إلى المرجعيات الحضارية الشرقية وخصوصيتها، وهي المرحلة التي أخرجت كتاباته الإسلامية التي تمثل أعماله الفكرية الكبرى على امتداد ربع قرن من نضجه الفكري. هذا الإسهام تمثل في أعماله الإسلامية التي بدأت بـ «حياة محمد» عام 1935، ثم «في منزل الوحي» عام 1937، واتبعهما بأعماله عن الخلفاء الثلاثة «الصديق أبو بكر» عام 1942، «الفاروق عمر» عام 1944. ويربط مؤرخو هيكل هذه المرحلة الفكرية ببداية مرحلة مماثلة لدى كبار الكتاب المصريين كل يحذو حذوه ولكي يحفظوا التوازن بين الأصالة والمعاصرة ومراجعة التيار الذي كان قد بدأ بالافتتان بالحضارة الغربية، فيما يقول فتحي رضوان، فإن كتاب المدرسة الحديثة التي كان يمثلها هيكل والعقاد ومحمود عزمي ومنصور فهمي بعيدة من التراث الإسلامي بل كانت تظن أن تجديد الفكر يتطلب البعد من الفكر الإسلامي بما يفرضه من قيود، وأن مثل هذا الفكر أصبح يمثل مرحلة تاريخية ولا يصلح لإحياء ونهضة مصر. وكان يقوي هذا الاتجاه عندهم ما كانوا يرونه من حال الأزهر ورجاله والقطيعة بينهم وبين التفكير في شؤون الدنيا. غير أن مثل هذا التفكير ما لبث أن تعرض للمراجعة من جانب هذه المدرسة بفعل عدد من العوامل التي شككتهم في صلاحية النموذج الغربي وفي أهداف الغرب ونواياه تجاه الشرق والإسلام، وفي مدى صلاحية بناء نهضة في بلادهم تنفصل عن تراثها وثقافتها، فقد تأمل هؤلاء الكتاب في أزمة الحضارة الغربية كما عكستها الحرب العالمية الأولى، وهي الأزمة التي هزت اعتقادات المفكرين الغربيين أنفسهم في أسس حضارتهم وقيمها، كما لاحظوا الاتجاه الاستعماري لدول الغرب، واستغلالها أمم الشرق، وسيطرة الدوافع المادية والنفعية عليها. وبالنسبة إلى محمد حسين هيكل لم تكن هذه المراجعة، وهذا الاتجاه إلى إحياء مقومات الحياة المعنوية للأمة، جديداً أو طارئاً، وإنما كانت مرحلة تأمل طويل انتهى به إلى القول إن «الأمة التي لا ماضي لها لا مستقبل لها، والحياة المعنوية هي قوام الوجود الإنساني للأفراد والشعوب، لذلك لم يكن لنا مفر من العودة إلى تاريخنا نلتمس فيه مقومات الحياة المعنوية لنخرج من جمودنا هذا، ولنتقي الخطر الذي رفعت الفكرة القومية الغرب إليه فأدامت الخصومة بسبب الحياة المادية التي جعلها الغرب إلهاً»، إلى جانب هذه المراجعات للحضارة الغربية وصلاحية نموذجها، يري محمد حسين هيكل حدثاً يتضح من أسلوبه في روايته، وكذلك مما قام به لمقاومته على صفحات «السياسة» أنه هز وجدانه الديني، ونعني به النشاط التبشيري لبعض الجهات والمؤسسات في مصر، ففيما يروي هيكل أن نشاطاً تبشيرياً ظهر فجأة في ثوب مخيف، ووفقاً لما تناقلته الصحف يومئذ أن الجامعة الأميركية في القاهرة هي مصدر هذه الدعايات التبشيرية، وكان غريباً حقاً هذا النشاط الذي بدأه المبشرون والذي لم يسمح بمثله من عشرات السنين، إذ إنه امتد من القاهرة إلى بورسعيد وإلى غيرها من مدن الأقاليم، وتآلفت جمعية لمقاومة هذا التبشير كان هيكل من أعضائها. ولم تكن هذه المقاومة إلا اقتناعاً بأن «هذه الحركة يقصد بها إضعاف ما في النفوس من ثقة تجاه الدولة ولما تنطوي عليه من قصد سياسي هو إضعاف معنويات الشعب بإضعاف عقيدته». غير أن هيكل لم يكتف بدور الصحافي أو السياسي في مقاومة هذه التجربة التبشيرية وإنما ارتفع إلى مستوى آخر وهو مقاومتها من طريق الفكر وأن الطريقة المثلى لذلك كانت «أن أبحث حياة صاحب الرسالة الإسلامية ومبادئه بحثاً علمياً وأن أعرضه على الناس عرضاً يشترك في تقديره المسلم وغير المسلم». ومن ثم كان سفره «حياة محمد» والذي كان بداية كتاباته الإسلامية، والتي كان لها صداها عند غيره من المفكرين المصريين مثل العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم، فكتب الأول عبقرياته، وكتب توفيق الحكيم «محمد»، وكتب طه حسين «على هامش السيرة» و «مرآة الإسلام». اختيار سطحي وفي المراحل المتطورة لنضجه الفكري يبلور محمد حسين هيكل نظرته للغرب ويحلل طبيعته ودوافعه في علاقته بالشرق، والمدى الذي استجاب به الشرق للحضارة الغربية وتوقعاته منها، ويطرح السؤال الذي سيظل مركزياً حول حدود إقبال الشرق على الغرب، فقد بدأ هيكل في طرحه هذه القضايا بالتشكيك في أن الغرب قد غزا الشرق باسم العلم أو الفكر الحر وإنما غزاه باسم الصناعة الأوروبية وعلى أساس مادي بحت وبشكل جعل الحضارة الغربية مرادفة للاستعمار في ربوع الشرق. ويفصّل هيكل تطور علاقة هذا الغزو الغربي الاستعماري لشعوب الشرق ويفسر أسباب إذعانها أمامه بأن هذه الشعوب رأت في هذا الوافد الجديد أملاً في أفكار جديدة يستريح إليها العقل، وهكذا نظرت شعوب الشرق إلى أمم الغرب باعتبارها أسمى نفوساً وأرقى عقولاً وأقدر على أن تكون مثلاً يحتذى - ويوجه هيكل سؤالاً جوهرياً في التعامل مع هذه الحضارة: كيف يكون الإقبال عليها؟ هل هو نزع القديم وارتداء ثوب الحضارة الجديدة؟ واستخلص هيكل أن ما اختاره الشرق كان اختياراً «سطحياً»، وهو محاكاة الغرب صاحب هذه الحضارة باستعارة مظاهر حضارته. وهو المنهج الذي انتهى بمن اعتنقوا ثقافة الغرب إلى النظر إلى بلادهم نظرة إشفاق لا تخلو من ازدراء وكان من شأن هذه النظرة إضعاف القوة المعنوية بأكثر مما فعلت البعثات التعليمية والدينية الغربية. ويتابع هيكل نظرته إلى الحضارة الغربية وثغراتها الرئيسية في خلوها من الروح والإيمان، ويشير إلى ما صدر عن مفكرين وفلاسفة غربيين من أمثال كومنث وبرجسون «الذين نعوا على العلم الغربي قصوره عن أن يجد حلاً علمياً للصلة ما بين الفرد والجماعة والوجود، ولا يعني ما ذهب إليه الفكر العام في أوروبا إلا أن العلم قد عجز عن أن يجد غذاء نفسياً للشعوب الغربية وأنه لا مفر من الالتجاء للشرق ومذاهبه وأديانه وأن يجد فيها الغرب غذاءه». ورغم إقرار هيكل بأن عصور الإلهام انتهت وأن ما يسود الآن هو العلم وكلمته، إلا أنه يعتقد أن هذا يصدق على المستقبل القريب وحده حيث تصور أن المستقبل يمكن أن يحمل معه ما يدفع الناس إلى التفكير من جديد في الوجود كله وفي علاقة الفرد بهذا الوجود، أما الشرق فإن هيكل يتصور أنه بعد جيل أو جيلين، وبعد أن يكون الشرق اندفع في شكل أكثر في تقليد الغرب واقتراض مدنية الغرب مثلما اندفعت في زمنه تركيا وإيران وأفغانستان، ستنشأ عنه ردود فعل وثورات وحركات تثير خوف الشرق وتحرك حضارته القديمة المتدثرة اليوم بدثر كثيفة من الأوهام وتقوي نزعات هذه الحضارة القديمة في نفس امتلأت بآثار علم الغرب وحضارته، وأنه من هذا الاحتكاك بين هذا القديم الموروث، والحديث المجلوب، سوف تتجلى شرارة الإلهام التي تتجلى خلالها كلمة الحق وتجتمع فيها مظاهر الحضارة الغربية المستعارة وهذا الأصل القوي الثابت في حضارة الشرق. ويختتم هيكل رؤيته هذه بقوله «أحسبني أرى هذه التطورات التي أؤمن بها رؤي العين، وأحسب الذين تبهرهم اليوم مدنية الغرب يرونها مثل إذا هم أطالوا التفكير فيها، وحسبهم أن يفكروا في مبلغ نفوذ أهل الغرب اليوم مما ينقص مدنيتهم من روح يسمو فوق المادة ولا يخضع الخضوع الأعمى لمذهب الاقتصاد ليوقنوا يقيناً بأن العالم تضطرم اليوم بين أحشائه حياة جديدة لا سبيل إلا أن تبعث في العالم نوراً جديداً غير نور العدمية وهذا النور الجديد عما قريب سيضيء ومن الشرق سيكون مطلعه». وكان من الطبيعي أن يكون لهذا التحول الروحي والفكري لمحمد حسين هيكل ردود فعل لدى «المجددين» بخاصة بعد أن ألف هيكل كتابه «حياة محمد»، وهو ما جعله يرد عليهم في مقدمة كتابه «في منزل الوحي»، ويرد على اتهامهم بأنه أصبح «رجعياً»، فيقول «لقد خيل إليّ زمناً كما لا يزال يخيل إليّ أصحابي بأن نقل حياة الغرب العقلية والروحية هو سبيلنا إلى النهوض، وما أزال أشارك أصحابي في أننا لانزال في حاجة إلى أن ننقل من حياة الغرب العقلية ما نستطيع نقله، ولكني أصبحت أخالفهم في أمر الحياة الروحية وأرى أن ما في الغرب منها غير صالح لأن ننقله، فتاريخنا الروحي غير تاريخ الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته». * كاتب وسفير مصري سابق