كنا في زمن الثورات وأصبحنا في زمن الحرب على الإرهاب، هذا هو الظاهر منذ أكثر من سنة، رغم أن قوى الإرهاب كانت قد أُطلقت في سوريا بعد عام ونصف من الثورة لمواجهتها. هل هذا التحوّل طبيعي؟ هل كانت الثورات هي الفوضى الخلاقة، تلك التي أطلقتها أميركا بوش، وتنتقل الآن إلى مرحلتها الثانية التي تتمثّل في انتشار الإرهاب؟ هذا ما يتكرر لدى قطاع من النخب التي لم تقتنع منذ البدء بالثورات، واعتبرتها مؤامرة. بالتالي فإن ما يجري الآن"تأكيد" لذاك التحليل الذي أطلقته. ولا شك في أن مفهوم الحرب على الإرهاب صناعة أميركية وأطلق بعد الهجوم الذي طال أميركا يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001، وقُصد منه مواجهة تلك القوى الأصولية التي دربتها مخابراتها في أفغانستان لمواجهة السوفيات (المجاهدون العرب)، ونجحت في هزيمتهم. " كل الخطاب الإعلامي المكثّف والمنتشر حول الحرب على الإرهاب، كان للتغطية على سياسة عملية ولتبريرها أساساً، وهي سياسة السيطرة والاحتلال لتحقيق مصالح الاحتكارات الأميركية " هل كانت أميركا ساذجة إلى هذا الحدّ لكي تدرّب من يمكن أن ينقلب ضدها؟ لكن السياسات التالية ربما تكون قد أوضحت الهدف، حيث إن الأمر تحوّل إلى "حرب على الإرهاب" نظرياً، لكنه أدى إلى احتلال كل من أفغانستان والعراق، وإلى نشر قواعد عسكرية وقوات في كثير من مناطق "الشرق الأوسط"، وظهور ميل أميركا إلى السيطرة الشاملة على العالم، وفرض مصالحها كمصالح عليا لكل العالم. بمعنى أن الإرهاب الذي مورس كان مقدمة لسياسة عسكرية أميركية شاملة، ظهر أنه محضَّر لها منذ زمن بعيد. وظل شعار "الحرب على الإرهاب" المدخل لتوسيع الدور العسكري الأميركي، وما زال إلى الآن. إذن، يمكن القول هنا إن كل الخطاب الإعلامي المكثّف والمنتشر حول الحرب على الإرهاب، كان للتغطية على سياسة عملية، ولتبريرها أساساً. هذه السياسة هي سياسة السيطرة والاحتلال لتحقيق مصالح الاحتكارات الأميركية، والبحث عن بيئة تسهم في حل أزمة اقتصادية تهدد الاقتصاد الأميركي (كما ظهر بعد ذلك في سبتمبر/أيلول2008). هنا الخطاب هو الساتر الذي يحجب الهدف العملي الذي هو السيطرة والاحتلال. لكن هذه الخبرة يبدو أنها باتت "متنقلة"، حيث أصبحت طريقة مفيدة لكل من يريد تحقيق سياسات، أو التغطية على سياسات. هذا ما بات يحكم خطاب النظم العربية، خصوصاً تلك التي شهدت ثورات. فقد أصبح الأمر يتعلق بالإرهاب وبمحاربة الإرهاب، وأصبح كل رفض للنظم يُتهم بالإرهاب، كما أصبح التمرُّد على النظم إرهاباً. هذا ما بدأه النظام السوري، حيث واجه الثورة منذ اللحظات الأولى بخطاب يركز على دور "العصابات المسلحة"، و"المجموعات السلفية"، و"المجموعات الإرهابية". ولقد كان ذلك مبرراً لاستخدام السلاح ضد شعب يتظاهر.. ضد شباب يريد التغيير. خطاب الإرهاب باتالمسيطر، وهو الذي يتردد في كل لحظة، والشعب يتظاهر سلمياً، ويرفض الانجرار إلى السلاح. بالتالي كان خطاب الحرب على الإرهاب هو الغطاء الذي أراده النظام السوري لكي يمارس أقصى العنف، ويقتل بشكل وحشي. نجح هذا الخطاب لدى كل من يريد أن يصدق النظام، وفشل لدى كل المدققين في ما يجري، لكنه ظل وما زال الخطاب الذي يوجه سياسة النظام. والآن بات هو الخطاب الذي يهدف منه إلى شل قوى الثورة، لكن أيضاً تأسيس التحالفات مع "كل الدول التي تحارب الإرهاب". لقد أصبح المدخل لتأسيس التحالفات، والتبرير لدول وقوى وقوفها مع النظام. بالتالي هنا نلمس كيف انتقل خطاب مواجهة الإرهاب من غطاء لسياسات سيطرة واحتلال إمبريالية، إلى غطاء لسياسات نظام يريد سحق الثورة، ويعرف أنه ليس غير العنف ما يؤدي إلى ذلك. لقد أعلن الحرب على الثورة باسم الإرهاب.. هكذا بالضبط. وإذا كانت البلدان التي حدثت فيها ثورات قد وصلت إلى مرحلة تغيير "الرئيس" على أمل الالتفاف على الثورة، فقد ظهر أن الثورة قائمة وليس من السهل الالتفاف عليها، لأن لدى الشعب مطالب لم تعد ممكنة التأجيل، بالضبط لأنها تخصّ حياته، معيشته، وجوده. وبالتالي أصبح واضحاً أن الثورة مستمرة، قائمة، وأنها لن تتوقف دون تحقيق تغيير جذري. هذا الأمر الذي لا تريده الطبقات المسيطرة، والتي تتحكم بالنظام، وهي تعتقد بأن وجودها يعتمد على شكل السيطرة القائم، وعلى آليات النهب الممارَسة. حين لا يعود الالتفاف ممكناً، وحين يصرّ الشعب على مطالبه، يحتاج الأمر إلى "سياسة أخرى". " باتت الحرب على الإرهاب هيالمبرر لاستخدام قوى الأمن والجيش، والميل إلى ممارسة العنف.. كل ذلك بحجة الحرب على الإرهاب، لكن له أغراض أخرى ليس الإرهاب أحدها " هذا ما فكّرت فيه النظم، لهذا باتت "الحرب على الإرهاب" هي المبرر لاستخدام قوى الأمن والجيش، والميل إلى ممارسة العنف.. كل ذلك بحجة "الحرب على الإرهاب"، لكن له أغراض أخرى، ليس الإرهاب أحدها، بالضبط لأن الإرهاب صناعة، حيث يمكن توظيف فئات مهمشة في سياسات لا تخدم المهمشين، بل تخدم الطبقة الحاكمة. لهذا وجدنا أن "الحرب على الإرهاب" تصبح هي الخطاب المتكرر من قبل النظم، هي الخطاب الأوحد الذي يجب أن يفرض توحُّد الشعب خلف النظام "دفاعاً عن الوطن"، و"منعاً من انهيار الدولة". هنا يمكن لمس هدفين متكاملين: الأول يتمثّل في القدرة على استخدام العنف، أقصى العنف، تحت حجة مواجهة الإرهاب، وتصفية الإرهابيين. وبهذا يجيّش الإعلام، وتصبح المظاهر العسكرية حقيقة قائمة، ويكون الاعتقال مسألة بديهية، وكذلك منه التظاهر أو الاحتجاج الذي يتعلق بالمطالب التي ثار الشعب من أجلها أصلاً. هنا تصبح السلطة استبدادية بالكامل، وتكون ردود أفعالها عنيفة. وكل هذا العنف يوجه ليس للإرهاب بل لكل من يريد الاحتجاج أو التظاهر أو الإضراب، كل من له مطلب كان قد طرحه منذ البدء حين انفجرت الثورة واعتقد بأنها ستحققه له. وبحجتها يجري اعتقال الناشطين، والذين لعبوا دوراً في الثورة، وتجري محاولة فرض "هيبة الدولة" من جديد، تلك "الهيبة" التي كسّرها الشع، لأنها كانت في مواجهته، ومن أجل سحقه. بالتالي فإن "الحرب على الإرهاب" تصبح هي "العنف ضد الشعب"، تكون الغطاء لممارسة العنف ضد الشعب. هناك إرهاب نعم، لكن ما يجري هو تضخيم الحالة واستغلالها من أجل تبرير كل عملية اعتقال أو قتل أو ترهيب. هذا ما لمسناه في مصر وفي تونس، حيث تكرر الخطاب ذاته الذي بدأ به النظام السوري مواجهة الثورة. إذن، لقد تعممت سياسة النظام السوري لكي تصبح سياسة عامة تتبعها النظم في مواجهة شعوبها. الهدف الثاني يتعلق"باختراع عدو"، وهذه فكرة أميركية لمّاعة تبلورت منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وإذا كانت أميركا تريد منها التوسع العالمي كما أشرنا، فإن هدف العدو هنا هو -كما أشرنا للتو- ممارسة العنف ضد الشعب، لكن أيضاً "توحيد الشعب" ضد الخطر الذي يتهدد "كيان الدولة". تصبح "الحرب على الإرهاب" هي الخطر الذي يجب أن يتوحد الشعب من أجل مواجهته، لأنه الخطر الحقيقي، الخطر الراهن الذي إذا نجح تنتهي الدولة. لهذا تجري صياغة الأولويات انطلاقاً من أولوية الحرب على الإرهاب، لا أولوية الجوع والفقر والبطالة والتهميش وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية.. وكل هذه المسائل التي كانت في أساس الثورة. هنا يصبح مطلوباً من الشعب ألا يطرح مطالبه، أو يتحدث بمشكلاته، أو يناضل من أجلها، بالضبط لأن الأولوية هي لمواجهة الإرهاب كي لا يؤدي إلى انهيار الدولة. " إذا كان مطلب الديمقراطية أساسياً لدى النخب، وكان من مطالب الثورة، فقد أفضى هذا الخطاب المواجه للإرهاب إلى التخلي عنه، وقبول الدكتاتورية " بهذا يجري الشغل على قلب أولويات الشعب، وعلى توحيده ضد خطر وهمي لكي يتخلى عن مطالبه الحقيقية، ومن ثم يناضل من أجلها. يصبح على الشعب أن ينسى أنه يحتاج إلى العمل والأجر الذي يسمح له بالعيش، وبالقدرة على التعليم والصحة، وأن يتحفّز من أجل إفشال الإرهاب الذي يمكن أن يؤدي إلى انهيار الدولة، الدولة التي هي ضمان استمرار المجتمع كما يقال. ولقد ظهر واضحاً هذا الهدف، حيث تحت شعار الحرب على الإرهاب جرى رفع الأسعار والتوسع في الخصخصة، وعدم زيادة الأجور، وعدم تحسين البنى التحتية والتعليم والصحة. لقد أصبحت الحرب على الإرهاب مبرراً لمحو الثورة، هكذا بالضبط. وإذا كان مطلب الديمقراطية أساسياً لدى النخب، وكان من مطالب الثورة، فقد أفضى هذا الخطاب "المواجه للإرهاب" إلى التخلي عنه، وقبول الدكتاتورية، كل ذلك كي لا تنهار الدولة، الدولة التي هي أداة نهب المجتمع. لم تعد الديمقراطية هدفاً أمام الإرهاب، وأصبحت الدولة القوية هي المطلب لكي تنجح "الحرب على الإرهاب". باختصار فإن "الحرب على الإرهاب" هي الأيدولوجية (طبعاً التي تمارس عملياً) التي يراد منها لفت النظر عن الثورة، وتحقيق هيمنة الطبقة المسيطرة بعد أن تكون قد أجهضتها. هذه هي المحاولة الثانية التي تقوم بها الطبقة المسيطرة لكي تجهض الثورة، بعدما حاولت الالتفاف وفشلت، وهي محاولة ستفشل كذلك. بالتالي يمكن القول إن "الحرب على الإرهاب"سياسة طبقية في مواجهة الثورات.