حتى عهد قريب، لم تكن نظرة الغربيين إلى تلال الجزيرة العربية تتجاوز كونها «جنة نفط»، ونسجوا حولها أساطير بدائية، وسحر الرمال، و«سخاء القدر» الذي أغاثهم من عنده بزيت لا ينضب، من دون أن يثقلوا على أنفسهم معاينة هذه الصور على أرض الواقع، بيد أن الرحالة النمساوي أرنست وايز كان واحداً من أولئك الذين قرروا الذهاب إلى تلك «الجنة»، مهما كان الثمن، خصوصاً أنه مدفوع بحلم رومانسي، لعيش أعذب اللحظات في الفردوس الأسطوري إلى جانب شريكته الأميرة النمساوية أوديسكالشي. وهكذا انطلق وايز وزوجته بسيارتهما الخاصة من نوع «جيب هلفنجر» نحو السعودية، ليقطعا 10 آلاف ميل، حتى انتهى بهما المطاف إلى ملك السعودية الملك فيصل بن عبدالعزيز، بعد أهوال في الطريق وشدائد وثقها في كتاب سماه «عشرة آلاف ميل عبر الجزيرة العربية»، جعله ديواناً لرحلته وأوهامه وأحلامه حول الفردوس العربي. ويصف أرنست معظم الرحلات التي كان يقطعها بأنها «شديدة الخطورة»، أنهكت عزمه وسيارته التي أخبره مسؤول صيانة في الكويت بأن محركها «أصبح عديم الجدوى»، وأنه معرض لفقد كمية كبيرة من الوقود في صحراء السعودية، «وهناك لن تجد من يمد لك يد المساعدة». ومع ذلك قرر وايز المغامرة والسفر بسيارته، إذ لم يكن لديه خيار آخر. حتى المبلغ المتبقي بحوزته لا يكفي لشراء سيارة جديدة، وهو الذي كان يتوقع أن يموت جوعاً، «بيد أننا لم نواجه متاعب جمة مثلما كان متوقعاً». وقبل أيام من مغادرته، توصل إلى السبب الفعلي وراء استهلاك سيارته كميات كبيرة من الزيت، إذ كانت سدادة أنبوب السحب غير محكمة الربط، ولم تكن هناك حاجة سوى لربطها بإحكام. ويمضي أرنست بالقول إنه «بعد التوصل إلى هذا التفسير استمر القلق رفيقاً لنا، لعدم تمكننا من الحصول على معلومات يمكن الوثوق بها عن الطريق الذي سأسلكه من الكويت حتى مدينة الرياض، على رغم أن عدداً من الأشخاص يمتلكون أعداداً طائلة من سيارات الأجرة التي يزدحم بها الشارع الرئيس الذي يدعى «الفراجي» خلال ساعات النهار، إلا أنه كان واضحاً أن أياً منهم لم تتسن له مغادرة المدينة إلا لبضعة أميال». وما زاد الأمر سوءاً أن المسافة من الكويت إلى الرياض لم تكن أيضاً معروفة من الجميع، قبل أن يهتدي إلى أحد قائدي سيارات النقل، الذي أكد له أن الرحلة تستغرق يومين في أقل الأحوال، في حين لم يبد الآخرون أي اهتمام بأسئلته، وظلوا يحدقون في سيارته، ويسألونه عن سعرها، وهل بإمكانها عبور البحر أم لا. وبعد مرور خمسة أيام، قرر أرنست وزوجته الأميرة خوض غمار الرحلة عبر «جنة النفط» - كما يصفها - والكثبان الرملية الصفراء التي تمتد على جانبي الطريق. وبعد ساعتين من السير شاهد تجمعاً مكوناً من مجموعة مبان معدنية، وكانت هناك لافتة خشبية منصوبة على الطريق، كتب عليها «أننا وصلنا إلى قرية السفانية». وكانت الساعة تشير إلى الخامسة مساء في شهر رمضان. وعلى رغم أنه بقيت على غياب الشمس ساعة كاملة، إلا أن جميع الأفراد انصرفوا استعداداً للصلاة. وتم إبلاغ أرنست وزوجته الأميرة بأن عليهما الانتظار حتى التاسعة من صباح الغد. ولم تفلح ابتسامات الأميرة وكلماتها المعسولة في ثني هؤلاء عن قرارهم. وفي قرية السفانية، لم يكن هناك مطعم أو فندف للنزول فيه. المكان الوحيد المعد للمسافرين مبنى شبه معدني رديء للغاية بحسب قوله، ما جعلهما يبتعدان قليلاً في أحد الكثبان الرملية من أجل النوم حتى الصباح. وجاء صباح اليوم التالي محملاً بالمزيد من التعب والقلق، إذ أوقفتهما نقطة تفتيش ادعى أحد رجالها أن أوراق التأشيرة «ليست كافية، ويجب العودة إلى الكويت، طالما أن الورقة المهمة فقدت أثناء الرحلة». قبل أن يأتي أحد الضباط ويحل الأمر من خلال دفع غرامة تقدر بـ127 ريالاً، ليتم بعد ذلك السماح لهما بدخول الأراضي السعودية. مقابلة الملك فيصل بعد يومين من السير وسط الرمال من المنطقة الشرقية إلى مدينة الرياض، وما تخللها من مصاعب شاقة، وصل أرنست وزوجته الأميرة النمساوية أوديسكالشي إلى العاصمة السعودية الرياض، وتحديداً فندق قصر صحارى في مطار الرياض، ووجد أن هناك غرفتين شاغرتين، وأخبر موظف الاستقبال أن إقامته في الفندق ستستمر لمدة ثلاثة أيام أو أربعة. ولم يكن يعلم أنها ستسمر إلى ثلاثة أسابيع. وفي هذا الوقت كان الأسبوع السادس اكتمل منذ مغادرته فيينا، قطع خلالها 11.786 كيلومتراً، مثلما دوّن عداد سيارته. ويصف أرنست مقابلة كبار الشخصيات في العالم مثل الملوك والسلاطين والرؤساء بأنها لم تكن بالأمر اليسير، ففي إحدى المرات كان عليه أن ينتظر ثلاثة أسابيع لمقابلة إمبراطور إثيوبيا هيلاسيلاسي، وليس هذا فحسب؛ بل إنه خلال تلك المدة ليس مسموحاً له بمغادرة أسوار أديس أبابا. وكان أرنست يعتقد أن «الملك سعود، الذي خلفه الملك فيصل، لا يحب لقاء الصحافيين. وكان يغلب على ظني أن الملك فيصل يأخذ المنحى نفسه تجاه الصحافيين، خصوصاً أنه لم يتقدم بطلب مقابلة الملك عند طلبه تأشيرة الدخول إلى المملكة. لكن الغريب أنه أثناء الاتصال بمكتب وزارة الإعلام للمرة الأولى عند وصوله للرياض طالباً لقاء الملك، أخبره المدير المسؤول عن الصحافة والإعلام فؤاد علكاوي أن مقابلة الملك قد تتم خلال الأسبوع المقبل، إذا وصل الملك مبكراً من رحلته إلى داشيدا. ومن جملة ما قاله فؤاد إن الملك فيصل كثيراً ما يقابل الصحافيين الأجانب، والتقى قبل بضعة أسابيع صحافياً من ألمانيا، وعلم أيضاً أن الملك فيصل يفتح أبواب قصره يومياً عندما يكون موجوداً في مدينة الرياض، لتلقي شكاوى المواطنين، ومقابلة شيوخ القبائل البدوية. وذكر أرنست أنه خلال اليومين الأول والثاني من الإقامة في الرياض، لم ير فيهما أي مواقع مميزة، «ولا تجارة خارجية، وإن وجدت فهي طفيفة، ولا تكاد تذكر، إلا أن التطور في المدينة بدأ يظهر، خصوصاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتنامي الطلب على النفط، إذ تعرفنا على معالم التطور فيها من مبان حديثة للوزارات والبنوك، لاسيما شارع المطار الممتد على مسافة خمسة أميال من المدينة القديمة إلى المطار الجديد، ويطل على هذا الشارع فندقان كبيران. وهناك بعض المخططات الفارغة، وعلى بعد 200 قدم من طريق المطار، يقع مكتب البريد الرئيس، وهو أحد المعالم المميزة في مدينة الرياض الجديدة، وهناك أيضاً ناطحة سحاب مكونة من 12 طابقاً تدعى البرج الدائري، وفي عهد الملك سعود والملك فيصل أصبحت الرياض إحدى أغنى المدن في قارة آسيا». وفي صباح الخميس الموافق 20 كانون الثاني (يناير) كانت طلقات المدافع تدوي معلنة بداية الاحتفال بأعياد رمضان، واستيقظت المدينة. وعندما حاول أرنست الولوج إلى شارع المطار، أوقف من جانب أفراد الأمن. وعلم أن السبب في ذلك وجود مجموعة من الجيش السعودي في مركبة عسكرية تتبعها مجموعة من رجال الأمن على دراجات نارية، تحرس موكباً من السيارات الفارهة. ولهذا علم أن أسباب هذه الضجة، موكب الملك العائد إلى الرياض. وبعد مرور نصف ساعة - بحسب أرنست - «جاء الإعلان الرسمي من المدير في وزارة الإعلام بأن المقابلة مع الملك قد تتم في أي وقت خلال هذه المدة، وربما تتأخر لمدة أسبوع، نظراً للاحتفالات بالعيد، قبل أن يأتي الموعد بعد يومين. وتمت مقابلة الملك في الخامسة مساء، ولهذا الغرض قدمت سيارة من الوزارة في الوقت المحدد، وعند الوصول إلى القصر رفع الحراس بنادقهم للتحية، والدخول إلى الصالة الرئيسة المزينة بأعمدتها الرخامية، وطلب منا الانتظار في غرفة الاستقبال التي كانت تضم كراسي فاخرة وطاولة وسجلاً للزائرين». وتم إخبار أرنست وزوجته الأميرة النمساوية بأن «المقابلة مع الملك ستتبع النسق الأوروبي، وهو ما يعني أن الأولوية تعطى للنساء عند التعريف، مثلما يمكن للسيدة أن تجلس في المقعد المجاور للملك». وقال: «في تمام الخامسة اصطحبنا إلى غرفة المقابلات، وكان الملك فيصل يجلس خلف مكتب، ومن هناك حرك يده تحية لنا، وبعد عبارات الإطراء اللازمة في هذا المقام، دعانا للجلوس معه في جلسة أخرى، مكونة من مقاعد فاخرة، وفي البداية أبدى الملك فيصل أسفه بخصوص شبكة الطرق، ولكنه وعد بأن تكون هناك طرق جيدة في القريب العاجل، إذ سينتهي العمل من تشييد أكثر من 6 آلاف ميل من الطرق في غضون خمس سنوات، بكلفة تصل إلى 250 مليون دولار أميركي، وتحدث عن مجال التعليم الذي أحرز تقدماً كبيراً. وكان عدد الطلاب في المدارس يزيد بنسبة 50 في المئة أو أكثر كل عام. وكانت معظم التجهيزات اللازمة متوافرة، واستقطب أفضل المعلمين وأساتذة الجامعات من جميع أنحاء العالم». وعقب ذلك، تحول الحوار إلى الخيول التي يمتلكها الملك، وسمح للأميرة النمساوية أوديسكالشي بركوب أحدها، وهو ما تسبب في حساسية بين زوجات رجال الأعمال الأميركيين والأوروبيين، وفي نهاية المقابلة تحول النقاش عن قضية الطلاب السعوديين في أوروبا وأميركا، وأبدى الملك فيصل رغبته في أن يأتي اليوم الذي يأتي فيه طلاب فيينا للدراسة في الجامعات السعودية.