منذ عام 1980 عرف القاص والروائي محسن يونس طريقه إلى النشر، حين أصدر مجموعته القصصية الأولى الأمثال في طبعة محدودة، ثم توالت أعماله الصادرة عن دور نشر رسمية وخاصة، ومنها الكلام هنا للمساكين الأمثال في الكلام تضيء يوم للفرح- ما تبقى من بدايات بعيدة الملك الوجه خرائط التماسيح وغير ذلك من روايات ومجموعات قصصية، إضافة إلى انشغاله بالكتابة للطفل. الخليج قامت بزيارة الروائي والقاص محسن يونس في منازل الحكايات الأولى، التي تكشف تطور علاقته بالكتابة الإبداعية. يقول يونس: ما أتذكره من طفولتي جيدا هو سعيي نحو من يحكي لي حكاية، الآن يمكنني محاولة إيجاد السبب لهذا الولع الذي يشاركني فيه الناس في كل مجتمعات العالم، ربما كان هذا الولع هو الحافز القوي نحو تعلم القراءة لامتلاك كتاب، والاستمتاع بحكاياته وحدي دون انتظار من يحكي تحت عوامل الغياب أو المرض أو عدم الرغبة، فيذهب انتظاري ولهفتي هباء. بصراحة ودون ادعاء كاذب- الكلام لمحسن يونس- تعلمت القراءة بقدرة دافعة ذاتية وملاحظة اختلاف صوت الحرف في الكلمات، اكتشفت الحركات الثلاث الضم- الكسر- الفتح وعندها انفتح العالم أمامي، كنت في السنة الثالثة من التعليم الأساسي، وهناك مكتبة صغيرة في الفصل كانت هي الباب الذي انفتح ولم يغلق، كنت كالجرادة أقلب صفحات الكتاب بلهفة . كانت كل الكتب في هذه المكتبة الصغيرة قصصاً أو روايات موجهة للأطفال، فهل لو كانت تحتوي على كتب في الفيزياء المسلية والرياضيات المبسطة، كان يمكن أن تغير طريقك لتصبح فيزيائياً مثلا أو عالماً من علماء الرياضيات؟ هكذا نسأل ويجيب محسن يونس: لا أعتقد، وربما كنت قد ابتعدت عن تلك المكتبة، لأن هناك شيئاً كامناً داخلي كان يسعى نحو الكتب التي بها القصص- الحكايات- وجاء الالتفات إلى مصادر المعرفة الأخرى في بداية المرحلة الثانوية، ثم إن جدتي لأمي لم تكن إلا حكاء لا يشق له غبار، لا تعرف الفيزياء أو الكيمياء إلا بقدر بساطة حياتها في العلم أن الحطب الجاف أسرع اشتعالا من الحطب الذي ما زال يحتفظ بعصارة، وأنها إذا نسيت الوعاء المملوء بالماء فوق النار فسوف تعود ولن تجد ماء، فقد تبخر، وأنا أحبها وهي تحبني، وكانت هديتها لي عندما تراني حكاية جديدة كانت بارعة في أن يحيط السحر بي، بمسك بروحي. يوضح: ما يحدث أثناء ذلك هو الأهم، وهو ما تبحث أنت عنه، وتريد معرفته، كان صوتها يوقظ خيالي، فألبس الشاطر حسن رداء مزخرفاً، وأجعله وسيما له وجه رائع الجمال، والحكاية تصفه بالحسن فعلا، الحقيقة أنني أضع نفسي مكانه وأحصد نجاحاته، كان الصوت لجدتي، والخيال لي، أنشئ عالما من ناس وحيوانات وسماء وسحاب يخالف العالم الذي أعيش فيه، الذي أهرب من صعوبته وخشونته وقسوته، ما أتذكره أنني كنت صغيراً ضاجاً بكل أوامر الكبار، وكل طاقة من عقلي مسخرة للدوران حولها ومخالفتها، بما لا يعقب عقاباً، ضجراً بكل التابوهات التي يبرع الكبار في صناعتها، لكنني كنت أميل إلى الصمت، ومراقبة العالم، يمكنني أن أعترف لك بأن ذاكرتي السمعية ضعيفة جدا، أما ذاكرتي البصرية فهي حادة جداً، وهذا يظهر جليا في اعتماد كثير من كتاباتي على المشهدية، بينما الحوار قليل ومشغول مع السرد. توسعت دائرة تلقي الحكايات - يقول محسن يونس- فأصبحت الست أم مسعد جارتنا هي التي تغذي لهفتي إلى الحكاية، سأحكي لك ثلاث وقفات عليك تأملها لأن المضمون كامن فيها، وعليك اكتشافه بنفسك، الأولى: أم مسعد تحكي لي الحكاية آخر كل نهار، في الصباح أعرف أن المدرس- وكنت في الصف الخامس الابتدائي- سوف يطلب من أحدنا أن يحكي حكاية لتلاميذ الفصل، فأنبري طالباً أن أكون هذا الحكاء، بينما هو يرتكن برأسه إلى طاولة وينام- أعرف أنه كان كسولاً، ولكن ليس المجال هنا مجال تقييمه- لاحظت أنني أبدل النهايات في حكايات الجارة، لا أستطيع القول بأنني كنت أضع نهايات أكثر جمالاً وتوافقاً لروح الحكاية، لكنني كنت أمارس فعل الوجود كحكاء له وجهة نظر يحاول أن يثبتها إلى جانب إيجابيته تجاه ما يتلقاه، أي ليس التلقي المستسلم بل التلقي الفاعل. الوقفة الثانية، كما يشير محسن يونس: عندما كتبت كنت في الثالثة والعشرين حملت ثلاث قصص إلى من قالوا عنه إنه قاص كبير، وأنا متلهف لسماع رأيه، أو إن شئت الحقيقة فقد كنت أريد اعترافاً منه بأنني كاتب، فلما مرت أيام وقابلته بادرني بقوله: يا بني الكتابة ليست طريقك.. هكذا دون أن يترك نافذة واحدة في العالم مفتوحة، ولا أعرف لماذا صدمني هكذا، مع أن بعضاً من التقيت بهم، وكانوا من أصدقائه تحدثوا عن الجريمة نفسها - الثلاث قصص- ولم يصدروا أحكاماً نهائية. الوقفة الثالثة: وجهة نظر أؤمن بها منذ عرفت أنني سوف أكتب، وبدأت في الكتابة، الكتابة منحة إلهية، وعلى من يختص بها أن يتمتع بإدراك يقظ غير كسول يمكنه من ملاحظة الأشياء القريبة والبعيدة، المتحركة والثابتة بأحجامها وألوانها وإدراك العلاقات بينها، إلى جانب امتلاكه ذاكرة تستوعب وتفرز الرؤى، وليس التفسيرات التي تحمل إجابات جاهزة لكل شيء، أي أنه صاحب عقل محاجج دائماً وليس مغلقاً يقينياً، فليس في الفن والأدب يقين واحد وعلينا اتباعه. ضمن غرائب الكتابة التي يطلعنا عليها محسن يونس، ما يتعلق بروايته بيت الخلفة، وهي تعديدة روائية، وهو يقول: لم يحدث أنني فعلت ما فعلته معها مرة أخرى مع كتابة أخرى، كنت أكتبها بصوت عال، لأنني كنت مهموماً بأن أحافظ على إيقاعها السردي دون الوقوع في الكتابة بأسلوب السجع مثلا، خاصة أن العديد في الأصل فن حزن شعري، فماذا لو كتبناه سردا؟ كانت تجربة تحمل الكثير من روحي ومفهومي ومعتقدي الفني والاجتماعي والسياسي، والعجيب أنني أثناء كتابتها تقتحم فكرة على النقيض منها ذهني، كانت فكرتي تحمل روحاً فكاهية، وكنت وما زلت أرى أن الكتابة الروائية والقصصية لدينا لا تميل لما هو كوميدي، احتمال كبير ربما بسبب كتابة المشهد الفكاهي نفسه، الذي لا يحتاج إلا إلى كتابة مباشرة لا ألاعيب فيها ولا تجريب ولا حداثة، ربما كانت احتمالات عبيطة، لكنني بدأت في كتابة رواية أثناء كتابة رواية، لا تشابه بينهما لا في الرؤية ولا في اللغة ولا في الروح، وحتى النشر، فالرواية العارضة التي كتبت تدعى حلواني عزيز الحلو، نشرت قبل الرواية الأصل بيت الخلفة بسنوات. هل تكرر هذا الأمر ثانية؟ يؤكد محسن يونس: لم تحدث معي مرة أخرى، ولم أسع إلى هذا الأمر، فبمجرد تذكري له أصاب بفزع، الكتابة مسؤولية صعبة جدا، وهي تزداد صعوبة مع التقدم في العمر، لذا فالحصول على فكرة والقعود عليها خير ونعمة، في المرحلة الإعدادية أو ما يسميها بعضهم المرحلة المتوسطة التقيت أنداداً لي يقرأون، وسوف أحكي لك مشهدين عن تلك المرحلة، المشهد الأول وكنت في الصف الثاني أجلس في الصف قبل الأخير حيث أنتمي إلى زملائي من الطبقة الغلبانة، ورأيت زميلا لي يأتي من مقعده في الصف الأول حيث ينتمي إلى زملائه من طبقة المياسير، لم أفكر في شيء يتعلق به ويتصل بي لأنه لم تكن بيني وبينه علاقة، لكنني لم أملك إلا الدهشة والصمت إزاء ما فعله، حيث كان يحمل رواية دون كيشوت في جزأين يمدهما نحوي قائلا: رأيتك تقرأ، وهذه هدية مني إليك.. اقرأ واستمتع وبعدها أرجعهما إليّ. المشهد الثاني في المرحلة نفسها جاء زميل لي- يقول محسن يونس- من مكتبة أخيه الأكبر بكتاب، وقال لي إن عليّ قراءته سريعا في خلال يوم حتى لا ينتبه أخوه إلى غياب الكتاب، أخذته ورأيت أن عنوانه هو السكرية، وهو الجزء الثالث من ثلاثية نجيب محفوظ، بعدها اكتملت الملهاة، حيث أحضر قصر الشوق وهو الجزء الثاني، ثم بين القصرين بعده، أي أنني قرأت الثلاثية بترتيب عكسي، لكن لم يحدث لديّ أي اضطراب أو اغتراب عن الأحداث والشخصيات، وأعتقد أن الروح القرائية كانت في أشد حساسيتها وقوتها، وبذلك استوعبت الثلاثية دون عنت، وكأني قرأتها بترتيب أجزائها المعروف. يقول : كانت الحالة العامة في منتصف الستينات دافعة، وكان يمكنها خلق هذا الجو والأقران، وكانت النهضة الثقافية حقيقية بصرف النظر عن أي موقف معاد لتلك الفترة، فطوال هذه السنوات، أثناء الدراسة، كنت أقرأ، ليس الروايات وحدها، وإن كانت هي صاحبة النصيب الأكبر، لكنني كنت أقرأ في التاريخ أيضاً، وكتب الفيزياء المبسطة، وكتب العلم بصفة عامة والمكتوبة بلغة موجهة إلى عموم الناس، في رأيي أن القصة والرواية لا بد أن تقدم بجانب ما تقدمه من أفق فلسفية وجمالية ورؤى للعالم لا بد أن تقدم أفقاً معرفياً، فإذا خلت من هذا الأفق المعرفي كانت أقرب إلى موضوع الإنشاء الجميل بفصاحته، والكاتب في نظري يعتمد على مخزونه من ذكريات، وما يحصله من معرفة تأتي من القراءة والمشاهدة والتأمل، وكتابة الرؤية هي الأولى باهتمامي وليس كتابة المشهد الواقعي كما رأته عيناي، دائماً أكتب ما خلف هذا المشهد، وما يحتوي من أسرار، الأسرار هي الأرض الحلال للكاتب، وعليه اجتياز هضباتها ووديانها من دون أن يتعثر، ومع ذلك أنا مع قول إيكو الذي يقول إن الرواية هي فن سرد ما لا يمكن تنظيره. في نهاية زيارة الخليج الثقافية للقاص والروائي محسن يونس يريد أن يقول ما هو عليه الآن، نقلاً عن السيناريست الفنان محمد حلمي هلال: أريد أن أتحدث عن الحقيقة، وأعرف مقدمًا أنه لا سبيل إليها سوى بالكتابة، لم أعد أبحث عن أشياء أتعلمها، بل عن أشياء أدركها.