في محاضرته القيّمة ضمن برنامج إثراء الذي نظمه مؤخراً مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي في شركة أرامكو السعودية، وضع الكاتب الأرجنتيني البرتو مانغويل صاحب الكتاب الشهير (تاريخ القراءة) خمسة محددات للقراءة الراسخة، سأتوقف عند المحدد الخامس منها، وهو المتعة، على اعتبار أن القراءة إن لم تحقق شيئاً من المتعة فإنها بالنتيجة ستكون قراءة عابرة، لا تملك مقوم البقاء والاستقرار، بحيث تنتهي ويزول أثرها بزوال الحاجة إليها. هذه المعلومة التي تثبتها التجربة، ويؤكدها كل من اشتغل بالقراءة تقودني إلى البحث في أسباب تدني مستوى مخرجات التعليم الذي يقوم في أساسه على القراءة، وعمّا إذا كان غياب هذا المحدد هو أحد أسباب هذا التدني، ولا أريد أن أقول أهمها. دعونا نفتش عن المتعة التي توفرها البيئة المدرسية في واقعنا الراهن، هل تنبه التربويون إليها كمرتكز رئيس لتحضير أذهان التلاميذ لاستيعاب ما يقدمونه لهم من المناهج والمقررات؟ وهل وضعت في الأساس على أنها عنصر استقطاب لا بد منه ؟ ما نعرفه أو نلمسه هو أن شيئاً من هذا لم يحدث على الإطلاق، رغم اتفاق الكثيرين على أن البيئة المدرسية بيئة طاردة، لكن طاردة لماذا؟ لا أعتقد أن أحداً فكر في أن يُجيب على هذا السؤال على أهميته. سأروي لكم هذه الحكاية، يقول أحد الأصدقاء: في ليلة ماطرة وفيما كان ابني الذي يدرس في الصف الثالث الابتدائي يستعد للنوم ليتمكن من أن يُفيق في الموعد المناسب للذهاب إلى المدرسة، قالت له والدته: انتظر قليلاً فقد يتم تعليق الدراسة، تعرفون ماذا كان رده؟، قال: لا أريد أن أعرف الآن، أريد أن أعرف عندما أصحو مبكراً لأستمتع بالتعليق أكثر. طفل في هذه السن يُفترض أن يجد في المدرسة ما يجعله أكثر تعلقاً بها، يُريد أن يُفيق مبكراً على أمل أن يجد أمامه قراراً بتعطيل الدراسة، ليتلمظ بشعور فراق المدرسة، وكأنه يحطم أنف خصم طالما أغاظه، أو يتشفى منه على الأقل. من المسؤول عن غرس هذا الشعور في تلك النفوس الصغيرة، هل هو عبوس بعض المعلمين؟، أم هو عجز التربويين عن خلق مناخ مبهج داخل المدرسة، أم ازدحام المنهج بما لا يتيح إلا المزيد من التوتر؟ أم أن الأمر يتصل بسيطرة عقلية التلقين القديمة على الأسلوب التربوي والتعليمي؟ تأمل حجم السرعة التي يتعلم بها الأطفال وفي سن مبكرة كل تعقيدات الوسائل الالكترونية التي تقدم لهم المتعة والمعلومة في قالب واحد، حتى أولئك الذين لم يبلغوا سن الدراسة لتدرك السبب. ثم اسأل ابنك عما ذاكره مساء البارحة، وأنجز اختباره أو تقويمه فيه، أنا على يقين أنك لن تجد منه حرفاً واحداً يلتصق بذهنه، لأننا نريد أن نطبع المعلومة في ذهنه عنوة، دون أن نحاول أن نفتح مغاليق وعيه بشيء من المتعة التي تجعله يقبل عليها بكل حواسه. أحد المعلمين أجرى استفتاء عبثياً في صفه بسؤال واحد فقط: هل تحب المدرسة؟ طالب واحد من بين (47) طالباً أجاب بنعم، يقول المعلم هذا الطالب كان أكثرهم غياباً! وعندما عاتبه زملاؤه قال: خشيتُ أن يضربني إن لم أحبها؟