×
محافظة مكة المكرمة

جدة تودع شهيدها القيسي

صورة الخبر

بعد أن ألقى تحية السلام على الموظف بادره بطلب الحديث مباشرة مع مدير الدائرة التي كان يراجعها، فما كان من الموظف إلا أن عرض عليه أن يقوم بخدمته، نظراً لأن الأمر ربما لا يستدعي الحديث إلى المدير شخصياً، ولكن المراجع أصرّ على طلبه، بل وزاد بأن ذكر أن المدير وحده هو الذي يملك الجواب على تساؤله، والحل لمطلبه الذي قدم من أجله. هذا المشهد الذي كنت شاهداً على وقوعه أثناء مراجعتي لإحدى الدوائر الحكومية يتكرر كل يوم في أروقة دوائرنا ومؤسساتنا الحكومية تحديداً، وهي مسألة تستحق التوقف عندها في محاولة لفهم أبعاد هذا الطلب، أو بالأحرى تلمس أسباب بروزه على السطح بصفته نهجاً لافتاً للانتباه يمارسه الكثير منا عند مراجعته للمؤسسة الرسمية. فهل هذا يعود إلى أن آليات العمل الإداري لدينا ما زالت تمارس بأدواتها القديمة؟ أو أن ذلك يعود إلى ثقافة عدم الثقة لدى المواطن التي غرستها وكرستها الممارسات الميدانية على مختلف الأصعدة؟ أم أن لطريقة تعامل الموظف المسؤول مع مراجعي الدوائر الحكومية دوراً في طلب مقابلة المدير والحديث إليه مباشرة؟ أو أن ذلك مرده إلى أن هناك نوعية من المراجعين يرون أنهم بمستوى يخولهم فقط التعامل مع المديرين؟ الإدارة المركزية البالية هي من قاد إلى تأصيل هذا النهج السلوكي؛ وذلك يعود إلى أن من يقف على رأس الهرم الإداري في مؤسسة ما لم يعط صلاحيات ومهام للطاقم الإداري الذي يعمل تحت إدارته يتحركون في إطارها وضمن حدود متفق عليها فيما بينهم، وإنما استفرد بها لنفسه، ولذا أصبح المراجع ومن له حاجة في تلك المؤسسة على دراية بحال ووضع الإدارة التي يقوم بمراجعتها، مدركاً معها أن صاحب الكلمة الأولى والأخيرة هو المدير الذي ليس من سياسته توزيع المهام، والرغبة في سرعة إنجاز العمل، وإنما السيطرة على كل شاردة وواردة. وآفة المركزية الإدارية هي إحدى آفات العمل الإداري التي تنخر في مفاصل العمل الإداري في مؤسساتنا ودوائرنا التي جعلت العمل وتفاصيله صغيرها وكبيرها في يد شخص واحد يقرر، ويأمر، وينهى. فأوجد هذا المسلك بدوره ثقافة الإصرار على مقابلة المدير وحده، والسماع منه حتى وإن كان حاجة المراجع يمكن تلبيتها من أطراف ومسؤولين آخرين غيره. وبجانب أنه أدَّى إلى تشكّل هذه الذهنية في المواطن نجدها في الوقت نفسه تقود إلى إهمال الموظف الذي يعمل تحت إدارة هذا المدير، وعدم مبالاته وتحمله للمسؤولية؛ لأنه لم يمنح في المقام الأول الثقة من قبل مسؤوله المباشر الذي اختطف موقع القرار، واحتفظ به لنفسه. وهذا النهج الإداري العقيم يقود في نهاية المطاف إلى الروتين، والتعقيد في آلية العمل، والبيروقراطية، وغياب دور المؤسسات في الإدارة، وارتفاع في أسهم الفردنة، وتغييب لروح العمل الجماعي، والوقوف حجر عثرة في نشوء عقلية المؤسسة في اتخاذ القرارات، وكل ذلك بالطبع يترك حالة سلبية يدفع ثمنها موظفو تلك المؤسسة، وكذلك مراجعوها المستفيدون من الخدمات التي تقدمها لهم. وقاد مسلك (أبي أكلّم المدير) إلى ثقافة عدم الثقة التي تولدت لدى المواطن الذي أصبح يرى أن الحل والعقد ملكاً لمدير الدائرة، أو المؤسسة التي هي نتاج تراكمات ثقافية، واجتماعية ولّدت معها عدم منح الثقة إلاّ لرأس الهرم الإداري. وساهم في تعزيز وتأصيل منحى عدم الثقة هذه الممارسات الإدارية التي يقوم به عدد من الموظفين الذين لا يتحلون بالنزاهة الكافية، ويتقاعسون عن خدمة المواطن بأمانة وصدق، ويتعاملون مع المراجع بهامش كبير من الغطرسة، وكأنهم أصحاب فضل على المراجع. وبسبب ذلك يجد المواطن نفسه مضطراً لطلب مقابلة المدير الذي ساهم بدوره في كبر حجم هذه الممارسة التي يطلبها ويصر عليها مراجع المؤسسات والدوائر بسبب إخفاقه في انتقاء الموظف الذي يقوم باستقبال المواطن المراجع، وعدم أخذه في الحسبان عند قيامه باختيار الموظف مدى درايته وكفايته في أمر التعامل الملائم مع الجمهور. وإلى جانب انتهاج أسلوب المركزية الإدارية، وعدم الثقة نجد أن المواطن نفسه شريك في تثبيت دعائم هذا التصرف، وجعله منهجاً يتبعه الكثير منهم عند مراجعتهم للدوائر الحكومية فهم وإن نالوا المراد، أو أدركوا أن المراد يمكن الحصول عليه من الموظف الذي قابلهم إلا أنهم يرون أنه لا بُدَّ من سماع الجواب من فم المدير حتى وإن كانت اللوائح ذات العلاقة بمطلبه واضحة وضوح الشمس في النهار، ولا تحتاج إلى مزيد من الشرح والتفصيل إلا أنه يصر على مقابلة المدير لعله يمنحه استثناء لتلك الأنظمة، أو أن يجد له مخرجاً يلتف من خلاله على تلك اللوائح والأنظمة اعتقاداً منه أن المدير بحكم خبرته، وممارسته الإدارية أقدر على معرفة الدهاليز والدروب التي يمكن من خلالها النفاذ والوصول لمراده غير الشرعي، أو لمعرفته أنه صاحب صلاحية أوسع، وفي موقع يتيح له اتخاذ قرار لا يجرؤ عليه غيره من الموظفين العاملين معه في إدارته. ولا يتوقف الأمر عند ذلك فهناك أسباب أخرى تجعل بعض المراجعين يطلبون الحديث مباشرة مع المدير إما لاعتقادهم أن مركزهم الوظيفي، أو مكانتهم الاجتماعية تمنحهم درجة أعلى من التعامل مع موظف ليس بمرتبة المدير. كما أن هناك من يعتقد أن معرفته بالمدير سواء كانت معرفة صداقة، أو لوجود قرابة بينهم، أو بسبب وجود مصالح مشتركة بينه وبين المدير، أو بسبب شفاعة من طرف ما تجعله يختار التعامل مباشرة مع المدير متجاوزاً بذلك الموظفين الآخرين. والمخرج من هذا ينطوي على القيام بعدد من الخطوات الإجرائية فنحن بحاجة ماسة إلى إيجاد تحول نوعي في آليات وطرائق العمل الإداري، واتباع الأساليب الحديثة في الإدارة من أجل تحجيم، أو اختزال الإجراءات الروتينية والبيروقراطية المتنامية في المعاملات الإدارية في المؤسسة الرسمية التي تقف حجر عثرة أمام طريق الإصلاح الإداري الذي ننشده. وبالإضافة إلى ذلك تبدو الحاجة ماسة إلى مراجعة إجراءات ومعايير اختيار المديرين الذين يقومون على إدارة مؤسساتنا، وبخاصة الخدمية منها التي هي على تماس مباشر مع جمهور المراجعين. أيضاً واقعنا الإداري بحاجة إلى برامج زمنية تنفيذية كي نضمن تطوير أدائه بشكل يتماشى مع استحقاقات المرحلة الراهنة. وكذلك نحن بحاجة إلى إيجاد جهاز رقابي حازم يتبنى آلية محدد للمتابعة والمراقبة، وذي صلاحيات رادعة لأصحاب النفوس الضعيفة التي تستلذ بوضع العراقيل والتعقيدات في طريق إنجاز معاملات الناس من دون تأخير يبعث على الإحباط واليأس. وموظفو الدولة بشكل خاص بحاجة إلى دورات تدريبية في فن التعامل مع مراجعي المؤسسات من المواطنين، وكذلك تزويدهم بمعلومات ومعارف تسهم في تطوير مهاراته، وتعمل على تغيير سلوكهم، وتوجيهه بشكل إيجابي. والمديرون بحاجة إلى منح صلاحيات واسعة لمن يعملون تحت إدارتهم حتى يكون هناك سرعة في وتيرة الأداء الوظيفي، وتتوزع المهام والأعمال، ويكون همَّهم الأكبر إحداث نقلة نوعية في الإدارات التي يتسنمون الهرم الوظيفي فيها. ويمكن أن يؤخذ في الحسبان كذلك استحداث طرق جديدة وأكثر فاعلية من أجل تخفيف الأعباء على المواطنين عند متابعة معاملاتهم، وإيجاد نافذة مرجعية واحدة في كل مؤسسة بحيث لا يضطر معها المواطن التنقل بين المكاتب الإدارية المتعددة مما يجعله يرى أنه من الأسهل له الإصرار على طلب لقاء المدير حتى لا يضطر إلى هذه الدوران والتنقل الذي ينتهي في معظمه إلى نتيجة غير مجدية بالنسبة له. وطلب التحدث إلى المدير مباشرة ملمح من واقع التعامل في الدوائر والمؤسسات الحكومية، وبخاصة، الدوائر الخدمية ساهم في تجسيده بصفته واقعاً ملموساً المواطن، والطاقم الإداري العامل في تلك المؤسسات والذي يشكّل أحد العوائق في مسيرة الإصلاح الإداري، والاحترافية المهنية، والرغبة في تسهيل انسيابية إجراءات معاملات المواطنين الذي تنشده وتحاول تجسيده على أرض الواقع مؤسساتنا ودوائرنا، ولكن الخطوات الخجولة لم تصمد أمام تأصله وممارسته على نطاق واسع وهو الأمر الذي يستدعي تبني الخطوات والإجراءات التي تم اقتراحها من أجل تسهيل أمور المواطنين والمراجعين للدوائر الحكومية، وتخفيف معاناتهم، والحد من هدر أوقاتهم، ودفعهم دفعاً للاستنجاد بالمديرين من أجل الحديث إليه مباشرة.