ما زال المشهد يطاردني كالكوابيس؛ مجموعة من الشباب الغاضب تحيط بسيارة تقودها امرأة شابة، هي تصرخ وهم يحاولون تدمير السيارة وإخراجها منها، الضربات والصفعات تنهال عليها، يخلعون زجاج السيارة الأمامي لكي يتمكنوا من مواصلة صفعاتهم لها، لم تكن هي في البداية من يقود السيارة، كان أخوها الذي أخرجوه وانهالوا عليه ضربا إلى أن سالت الدماء من كل جسمه ثم ألقوا به في المقعد الخلفي عاجزا عن الحركة، وأخيرا بمعجزة ما تمكنت من التحرك بالسيارة والابتعاد في طريقها إلى أقرب مستشفى. يا إلهي.. ليست هذه مصر التي أعرفها وليس هذا هو الشباب الذي كنت أنتمي إليه يوما ما، الآن فقط بدأت أتبين خطورة ما يحدث، هذا الشباب فقد أهم الصفات التي تحتمها الحضارة، الرجولة والمروءة والشهامة. وهي صفات تعجز قوانين العالم ودساتير الدنيا عن دفع الإنسان للالتزام بها. في غياب التحضر لا أمل في شيء ولا نجاة لأحد، ولقد علمتني الأيام أن أهم ما يميز الإنسان ليس درجة معرفته أو خبرته أو مكانته، بل مدى تحضره. وكل الأفكار التي خاصمت وتخاصم التاريخ اندثرت ليس لأنها خاطئة، بل لأنها غير متحضرة، وكل ما نكسبه بالقانون يخصم ويقتطع من مساحة الأخلاق. والأمم بالفعل تذهب إلى غير رجعة وغير مكان عندما ترحل أخلاقها بعيدا عنها. لقد بدأ الإنسان في بناء قصر الحضارة وحديقته الغناء في عصور ما قبل التاريخ، عندما اكتشف إنسان القبيلة الأولى ثلاثة أبواب مفتوحة أمامه على التوالي لدخول هذا القصر؛ الأول اسمه النظام. لقد تأمل حركة النجوم في السماء فتسلل إليه ذلك الإحساس الجميل بالنظام وحتمية الالتزام به. والباب الثاني هو النظافة، وذلك عندما بدأ يتمكن من شم رائحته ويكتشف ضرورة التخلص من نفاياته ذات الرائحة الكريهة. أما الباب الثالث فكان ما نسميه الإحساس الخاص بالجمال الذي يدفع الإنسان إلى بُغض القبح ويحتم ابتعاده عنه. احترام الأنثى هو بذاته احترام الحياة، والعدوان عليها بهذه الهمجية يعني الرغبة الواضحة في العدوان على الحياة والقضاء عليها. ومشكلة مصر الآن ليست في عجز الميزانية أو أن الناس لا تعمل، بل مشكلتها في أن أعدادا غفيرة من البشر تخرج مطرودة كل يوم من قصر الحضارة إلى العدم. والبحث عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية بعيدا عن الالتزام بالأبواب الثابتة لشروط التحضر والحضارة، وهي مرة أخرى النظام والنظافة والإحساس الخاص بالجمال، قد يصل بنا إلى المزيد من خراب الروح. لو أن سكان الأرض جميعا حجزوا في أول رحلة سياحية إلى مصر لإنعاش أحوالها الاقتصادية، لو أن أميركا وبلاد الغرب الغنية صنعت ماسورة عملاقة تضخ منها الأموال إلى مصر، لو أن الأرض في مصر أخرجت بترولا بحجم مياه البحر الأبيض، لما أفلح ذلك كله في إصلاح أحوالنا في غياب الإحساس بحتمية الالتزام بالنظام والنظافة والإحساس الخاص بالجمال. وربما لو حدث ذلك كله لقال المحللون السياسيون: المؤامرة واضحة.. الغرب وأميركا يضخون لنا كل هذه الأموال ليس لسواد أعيننا.. بل لكي لا نعمل ونتحول إلى بلطجية عواطلية.. احترسوا من هذه الأموال.. احذروا هؤلاء السياح.. احترسوا من هذا البترول الذي ظهر فجأة.. المؤامرة واضحة.. هم يريدون تلويث البيئة في مصر.